نحمد الله تعالى أن قيّض من التدابير والإجراءات ما جعل العودة إلى المساجد ممكنة في ظل هذه الأزمة التي عصفت بالعالم، ولولا فضل الله تعالى، ثم الجهود التي ألهم مسؤولي دولتنا المباركة بالمبادرة إليها لكانت العودة إليها بعيدة المنال، وذات كلفةٍ ثقيلةٍ في الخسائر؛ نظراً إلى التحدّي الحقيقي الذي تمثله عدوى هذا الفيروس أثلجت صدورنا بما أنعم الله تعالى علينا به من افتتاح المساجد بعد فترة من الإغلاق الاحترازي الوقائي، وتمكّن مقيمو الصلاة من تعفير وجوههم في بيوت الله ومناجاته في الجماعات، وأنِّست وحشة الذين تعلّقت قلوبهم بالمساجد، وتضمَّخت المسامع مجدداً بالعبارة الميمونة "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، ولا شك أن الفترة التي أمضيناها، ونحن نسمع المؤذن يردد عبارة "صلوا في بيوتكم" كانت عصيبةً على النفوس، وعزاؤنا أن الإغلاق حصل برخصةٍ شرعيةٍ معتبرةٍ قائمة الأركان. ولي مع افتتاح المساجد وقفات: الوقفة الأولى: علينا أن نفرحَ بهذا الفضل التي تفضّل الله به، حيث أمكننا من العودة إلى عمارة بيوته، فهو من أعظم أنواع الفضل، ويدخل دخولاً أوليّاً في قوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، فلنحمد الله تعالى أن قيّض من التدابير والإجراءات ما جعل العودة إلى المساجد ممكنة في ظل هذه الأزمة التي عصفت بالعالم، ولولا فضل الله تعالى، ثم الجهود التي ألهم مسؤولي دولتنا المباركة بالمبادرة إليها لكانت العودة إليها بعيدة المنال، وذات كلفةٍ ثقيلةٍ في الخسائر؛ نظراً إلى التحدّي الحقيقي الذي تمثله عدوى هذا الفيروس، وأولى ما يُبدي به المسلم فرحه بهذه العودة المباركة الاستقامة على دينه، بفعل الطاعات وترك المنهيات، والتوبة وحسن الإنابة إلى ربه. الوقفة الثانية: نحتسب عند الله أن يُثاب المواظبون على الجمع والجماعات على ما فاتهم من التردّد إليها بهذا العذر الاضطراري، فقد وعد في محكم كتابه أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون، أي غير مقطوع، ومن أنواع عدم قطع أجر المحسن أن يُثاب على العمل الذي كان يُداومُ عليه إذا حيل بينه وبين عمله بظرفٍ قاهرٍ، كما يدل عليه حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ» متفق عليه، وحديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَافَرَ ابْنُ آدَمَ أَوْ مَرِضَ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ مُقِيمٌ صَحِيحٌ» أخرجه ابن حبان. الوقفة الثالثة: فُتحت المساجد، لكن ما زالت الخطورة قائمة، والفيروس لم ينحسم أمره بعد، ولا بدَّ من اتباع باقي الإجراءات المستحدثة لأجله والصادرة من جهات الاختصاص، ولا يجوز الإخلال بها؛ لأنها من باب صيانة النفوس التي هي من أهم الضروريات، ولا وجه للاستهتار بالمرض الفتاك، وليس للإنسان أن يستهتر بحياته فهي ليست ملكاً له، ولا يؤذن له شرعاً أن يفعل فعلاً يؤدي به إلى الهلاك، ومن باب أولى ليس له أن يجرَّ الضرر إلى غيره، فمن احتاط لنفسه وللمجتمع في ظلِّ هذه الجائحة فقد أسهم في إحياء الأنفس، ومن استهتر بالمرض وعرض نفسه وغيره للعدوى فيوشك أن يسهم في إزهاق الأرواح، ومعلومٌ الفرق الشاسع بين محيي النفس وقاتلها من قوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)، وإذا كان الاحتراز من هذا المرض مُسوِّغاً للترخُّص في الأمور التعبدية، فمن باب أولى أن تُترك لأجله العادات التي يُخشى انتقال العدوى من خلالها، فما سقط به الأهم سقط به الأقل أهمية. الوقفة الرابعة: الأخذ بالرخصة متأكدٌ في حقِّ من يُخشى عليه من الذهاب إلى المسجد؛ لضعف مناعته بسبب من الأسباب، فالخوف على النفس مُبيحٌ للتخلُّف عن الجماعة، كما هو مقرّرٌ في الفقه، وكذلك من يشعر بأعراض تشبه بعض أعراض هذا المرض عليه أن يترخّص احتياطاً للجماعة، وعلى المسلم أن يقف في هذه الأمور عند توجيهات الجهات المسؤولة، فالأمر مُهمٌّ لا مجال فيها للعاطفة، فربنا الذي أمرنا بإقامة الصلوات في المساجد هو من أمرنا بحفظ الأنفس ونهانا عن التسبب في إزهاق الأرواح، وإذا حصل تعارض بين الحالتين في الظاهر، فنرجع في كيفية التوفيق بين ذلك إلى ما يصدر من جهات الاختصاص، وأقوال المختصين، ومن لم يرجع إليها في مثل هذه المواقف تخبّط خبط عشواء، بحيث ينقلب بعضُ تعبُّدِهِ مُبعداً له عن الطريق المستقيم بدلاً من أن يُقرِّبه إليه، وما أُتيَ المتنطّعون إلا من باب تقديم قناعاتهم المرتجلة على أقوال أولي الأمر الذين أُمر الناس بالردِّ إليهم.