قليلة هي الكتب التي تحتار في تحديد مشاعرك تجاهها، إعجاب، استنكار، حب، نفور! تنبع هذه الحيرة أحيانًا من ضبابية جِنس الكتاب، ومن ابتكارية محتواه، فلو كان اعتياديًّا لأمكن إلحاقه بسوابقه في نفس المجال. أحد هذه الكتب هو «الضوء الأزرق» للأديب الفلسطيني حسين البرغوثي، الذي، وإن صنّفه القراء سيرةً ذاتية، يصعب تحديد هويّته، كما هي هويّة حسين نفسه. كتاب ثيمته الأساسية حوار بين شخص على حافة الهاوية يستنطق الحكمةَ من أستاذ صوفي ليس أقل منه جنونًا، لن تجد حديثًا واضحًا، أو خلاصات حكمة الحياة التي تبحث عنها في الكتب، بل ستجد أحاديثَ نفس تائهة، هلوسات مبعثرة، وقناعات عبثية، وآراء صوفية. تُرجم مؤخرًا كتاب ذكّرني بضوء حسين من أول صفحة، مذكرات راقص باليه بولنديّ كتبها في ستة أسابيع مع أولَ هلوساته قبل أن يؤخذ قسرًا إلى مصحة نفسية، «مذكرات فاسلاف نجنسكي» تأملات في الحياة والموت، حوارات مع الله، أحاديث عن الحب والناس، جمل يصعب القبض فيها على شيء ذي بال. جنون حسين نوعٌ خاص يصعب القبض عليه، حتى لدى صاحبه الذي يقول: «الجنون عندي كان كالرب، زنبقة من هذا النوع، أعرف أنها موجودة، وكانت ما كانت، وهي ما هي، وستكون ما ستكون، كنت أجهل أي شيء عنها ما عدا وجودها»، ومع صعوبة معرفة تشخيصه بمرض نفسي، يمكن اعتبار حالته ضمن جنون المبدعين الذين تتلبسهم حالات يصعب القبض على ماهيتها، ورغم مخاطرته في الاقتراب من هذه الحالة الغريبة، إلا أنه يرى «الجنون نوع من أنواع الضعف، وللخروج منه، لا بدّ من الإيمان بأننا لسنا فريسة، بل نمور وصيادو نمور وخطرون». أما نجنسكي فمع خوفه أن يلقوا به في مصحة نفسية، إلا أنه كان يرى الجنون الذي فيه هبةً إلهية ونضجًا استثنائيًّا، فعبّر عنه كصوفي عميق الإيمان قائلًا: «إن جنوني هو حبي للبشرية». قد لا يعجبك ضوء حسين في القراءة الأولى، وربما تترك مذكرات نجنسكي بسبب عشوائية أفكاره، «ولكني أؤكد لكم أنكم ستجدون منطقًا وحكمةً تحت قشرة الجنون والعشوائية تلك»، كما قال كولن ولسون في «اللامنتمي»، وإذا كان محمود درويش رأى في ضوء حسين «كتابًا فريدًا من نوعه في الكتابة العربية، ومن أجمل إنجازات النثر الفلسطيني»، فقد اعتبر ولسون «مذكرات نجنسكي الوثيقة الأكثر صدقًا وإيلامًا».