كان الجمهور اللبناني ينتظر عرضاً "جبرانياً" يستمع فيه الى نصوص "المجنون" ويشاهد بعض الشخصيات التي حفلت بها نصوص جبران خليل جبران أو "حكاياته" القصيرة. لكنّ الصدمة كانت كبيرة في معناها الايجابي: المخرج التونسي توفيق الجبالي لم "يخن" كتاب "المجنون" فحسب بل "خان" جبران نفسه محرّراً اياه من "لبنانيته" الضيقة أولاً ثم من رومانطيقيته الانثيالية، مانحاً مفهوم "الجنون" لديه أبعاداً حداثية وربما ما بعد - حداثية. بعض المشاهدين لم يستطيعوا مجاراة المخرج والممثلين ولا استيعاب اللعبة الغريبة وعمادها الجنون المشهدي والهذيان "الصوّري". علاوة على أنهم لم يجدوا جبران الذي قرأوه وشاهدوا بعض الأعمال المستوحاة من نصوصه. جبران هنا غريب حقاً، وغربته مضاعفة: كتب جبران نصوص "المجنون" بالانكليزية أصلاً ثم عربها انطونيوس بشير ثم صاغها مشهدياً المخرج التونسي توفيق الجبالي. وكم أصاب الأخير حين اعتمد مقولة جبران الشهيرة: "أنا غريب في هذا العالم". فهو، انطلاقاً من هذه "الغربة" راح يحكي قصة "المجنون" الجبراني مرتكزاً الى بضعة نصوص أو مقاطع أو جمل من الكتاب. ومنها مقطع مترجم الى الفرنسية. غير ان الكثيرين من المشاهدين اللبنانيين أدهشهم ما يشاهدون من صدور أطياف في قلب العتمة، ووجدوا في عرض الجبالي أجمل "الخيانات" الجبرانية وأعمقها. فجبران هنا شخص معاصر، حديث وأصيل، في آن، تتخلّله أصداء ميشال فوكو وبعض أبعاد التعبيرية الألمانية. هكذا كان لا بدّ من أن ينقسم الجمهور اللبناني حول هذا العرض: البعض أحبّه وتحمّس له ووجد فيه خفايا الشخصية الجبرانية متجلية في لعبة مسرحية حديثة، والبعض لم يتمكن من تحمّل ما يحصل على الخشبة من جنون رمزي وهذيان مشهدي ولم يستطع ان يتواصل مع اللعبة البديعة. ولعلّ هذا الانقسام الذي أحدثه العرض خير دليل على صوابيته وعلى أصالته وعمقه. فالمخرج لم يأتِ الى لبنان ليقدم الى اللبنانيين جبران اللبناني بل ليقدّم جبران الآخر، جبران "الغريب"، جبران "العالمي" بل جبران المتعدّد الوجوه والانتماءات. لا يخلو عرض "المجنون" من عنصري المفاجأة والجرأة، فهو يمعن في كسر الهالة الجبرانية وتحديث صورة جبران مؤسساً خطاباً مسرحياً غايةً في الطرافة والفانتازيا. فالنصّ "المكتوب" يكاد يغيب عن العرض لتحضر روح "الجنون" الجبراني ولكن منفتحة على "جنون" العصر الحديث. إلا أنّ الممثلات أدّين بعض النصوص مثلما أدّت الأصوات الخارجية المشوّهة في أحيان بعض الجمل والمقاطع. لكن أسرار اللعبة لا تكمن هنا، في التجاذب بين "بقايا" النص والمشهدية فقط، فالعرض يدفع المشاهد الى نسيان النصّ المكتوب واضعاً اياه فيه أو محاضراً اياه به. يجد المشاهد نفسه داخل النصّ الجبراني بعدما استحال نصاً بصرياً ومشهدياً بالأسود والأبيض، بالظلّ والضوء. ولم تكن تلك المقاطع والجمل التي أدّاها الممثلون والأصوات الخارجية الا نقاط ارتكاز في هذا العماء الداخلي، عماء النفس البشرية، عماء الجنون والهذيان والموت. لعلّه الليل الجبراني "القاتم والعاري" كما يسمّيه جبران، الليل الصوفي السلبي الذي تتشابه فيه الكائنات والظلال، والأصوات والأصداء حتى ليستحيل التمييز بينها. ولكن في قلب هذا الليل كان لا بدّ من أن تضاء شمعة أو يلتمع سراج. فالشعلة المتقدة تجعل ما يتخيله الإنسان اعظم ممّا يلتمسه، كما يعبّر غاستون باشلار، وتتيح للظلام ان يمتلئ بالأطياف والصور والأشكال الطالعة من عمق المخيّلة الخاصة والعامة. هكذا كان يصعب التمييز فعلاً بين الأجساد وأطيافها في وسط هذه الظلمة التي كان يخترقها الضوء حيناً تلو آخر، وفق ايقاع مشهدي - درامي. وكان يصعب التمييز أيضاً بين الأصوات والأصداء. فالأصوات تشبه أصوات بيكيت المشوشة في أحيان هي بذاتها أصداء طالعة من عمق اللاوعي وليست الأصداء إلا أصداء لها. انها حشرجات ربما، حشرجات تشبه تلك التي يطلقها المحتضر على سريره أو السجين في زنزانته أو "المجنون" في المصحّ. حشرجات لا تحتاج الى ان توضح ما تقول. فهي مشحونة بما قبل الكلام وما بعده. "لكم لغتكم ولي لغتي" يقول جبران، هذه الجملة سمعها الجمهور أكثر من مرة. وكان جبران يطمح ربما ان يقول: "لكم لغتكم ولي صمتي". هذا الصمت سمعه الجمهور محفوفاً باللعثمة والهذيان. فالفضاء المسرحي القاتم هو أشبه بالمصحّ. لكنه مصحّ يتخيّله الممثلون والجمهور في آنٍ واحد. مصحّ كامن في الذات الانسانية المضطربة والقلقة أمام الأسئلة المتناقضة التي يستحيل الاجابة عليها. لعلّ مفاجأة توفيق الجبالي وجرأته تكمنان في سعيه الى التحرّر من "النوع" المسرحي. المسرح هنا مسرح مضاد، ولكنه مسرح بامتياز، إذ يتمّ فيه التطهّر كما يقول الاغريق مصحوباً بالدهشة والجمال الغامض والحركة والمشهدية. حتى الرقص هنا ليس رقصاً في معناه الرائج. التمثيل أيضاً ليس تمثيلاً. والممثلون لا يؤدّون أدواراً أو شخصيات. ولا شخصيات أصلاً ولا أدوار في العرض. لا قصة أيضاً ولا أحداث. بل مقامات وأحوال وأهوال يجتازها الممثلون - الأشخاص ويعيشونها بأجسادهم وأرواحهم... عبر حركة مستعرة ومتوقّدة ومتنامية. حين ترقص الممثلات الثلاث يرقصن كأطياف ولكن من لحم ودم وهواجس ومخاوف... وحين يطلّ الممثل - الشخص متسربلاً بالأبيض يبدو كالميت الذي يحاول تمزيق كفنه وقناعه. ولا غرابة أن يطلّ الممثلون في أحد المشاهد كأنهم واقفون في توابيت واقفة بدورها. تصعب حقاً استعادة المشاهد أو اللوحات المغرقة في ثنائية الظلمة والضوء. انها لوحات أو مشاهد يظن الجمهور انه شاهدها في حلم ما، في كابوس ما. وكمن يتذكّر أحلامه أو كوابيسه يغمض المشاهد عينيه ليستعيد ما رأى من عمق ذاكرته أو مخيّلته. لوحات وصور تهذي باستمرار. حتى الصورة نفسها لم تغب عن المشهد: تحمل الممثلات صوراً فيما هنّ داخل اطارات تشبه اطارات الصور ويرقصن بها رقصة موت أو وداع. مشهد رائع وأليم: الصورة تطلع من قلب الصورة لتؤكد "صورية" هذا العالم. ولن يتوانى الممثلون عن رسم بعض المشاهد بالأجساد والظلال التي تتوزع جهات الخشبة تبعاً للإضاءة المعتمدة. ويطلّون في أحيان داخل شباكين: شباك وليس ستارة يرتفع ليظهر وراءه شباك آخر. شباكان اثنان لكن الصياد واحد وهو "القدر" والضحايا واحدة وهي الأشخاص الذين يعيشون وسط الشباكين. ولئلا يغيب جبران عن لعبة الهذيان الصوري استحضر المخرج بعض لوحاته وأجساده وعرضها في ما يشبه التشكيل المتحرك فإذا اللوحة تقابل الأخرى وتنفصل عنها ثم تتداخل فيها وتنأى. انها لعبة لوحات بالأسود والأبيض استطاعت ان تخلق فضاء متعدّد الأبعاد وخلاله بدت الأجساد كأنها تتحرّك. يصعب وصف تقنية توفيق الجبالي الحديثة وذات الحنين الى جمالية الماضي بما توصف به بعض تقنيات السينما أي بالخدعة أو الحيلة. فأدوات هذا الفنان نحّات العتمة قليلة وبسيطة: لوحات وستارات وسلايدات ضوئيات وكاميرا فيديو... وطريقته في البناء والرسم ليست ملغزة أو معقّدة. لكن ما يرسّخ طرافتها وجمالها فعل التخييل و"التأسيس من عدم" إذا جاز القول. ولعل المخرج الذي يمعن في لعبة "التحديث" يتمسك بجمالية الأبيض والأسود، ماضياً بها الى أقصى تجلياتها. وكم أعاد تشكيله الصوري والسينوغرافي الى الذاكرة بعض اللقطات التي عرفتها السينما التعبيرية الألمانية مورناو، فريتز لانغ.... فجمالية الأسود والأبيض لا تكتفي هنا باختلاف مناخ ملتبس في طبيعته الثنائية العتمة والضوء، الحقيقة والوهم... بل تغدو مشحونة بالمعاني والأبعاد، علاوة على طابعها الفانتازي وروعتها الصارخة. ولم تظهر الألوان على الخشبة إلا مرّات قليلة، وفي تلك المرّات فاجأ المخرج جمهوره بلوحات جبران ملوّنة في اللحظة الأخيرة من عرضها بالأسود والأبيض. توفيق الجبالي مخرج أشبه بالنحات الذي يجعل من العتمة مادة مطواعاً، وبأزميل من ضوء يعمل على حفرها ساعياً الى الكشف عمّا يهجع في ثناياها من أشكال وصور. مخرج يميل الى "اللعب" ولكن في المعنى الفلسفي، اللعب الذي "لا معنى آخر له سوى نفسه" كما يقول روجيه كايو. فاللعبة هنا عبثية وسوداء ومفعمة بالرفض والسخرية والتحدي والمغامرة والأسئلة والهموم... ولعلّ مفهومه للممثل والتمثيل يجعل من هذين العنصرين أساس اللعبة المسرحية. فالممثل هو حجر الزاوية حتى وان لم يؤدِّ دوراً محدّداً أو شخصية واضحة. الممثل جسد، الممثل صوت، الممثل حركة لا تهدأ بل تتنامى بايقاعيها الداخلي والخارجي. ولئن شاء الجبالي فضاءه المسرحي خالياً من التفاصيل السينوغرافية فإنّما ليجعل من الظلمة مادة التأسيس. وفي وسط تلك الظلمة حضر الممثلون بقوتهم التعبيرية وحركتهم شاكرة رماح، درة زرّوق، نضال قيقه وزياد التواتي. وكانت أجسادهم اشبه بالكتل اللينة الصارخة بالانغام والمتفجرة اشكالاً وأفكاراً. آجمل ما في عرض "المجنون" هو مواجهته الأدب الجبراني وتحريره من الانشائية والانثيال، وبلورته مشهدياً وحركياً. فإذا لغة العرض تخالف لغة جبران الرومانطيقية، وإذا نزعة جبران الحكمية تستحيل نزعة اختبارية بصرية عمادها الجسد والفضاء المسرحي ولعبة الظل والضوء. * تقدم المسرحية على مسرح مونو، بيروت. التصوّر والاخراج: توفيق الجبالي.