«هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في 8 أسابيع وسط ارتفاع الدولار    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    الوداد تتوج بذهبية وبرونزية في جوائز تجربة العميل السعودية لعام 2024م    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في stc    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    "محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    عصابات النسَّابة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    المنتخب يخسر الفرج    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    بوبوفيتش يحذر من «الأخضر»    أجواء شتوية    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتب بمخيلة عباسية وجاور المتنبي وصار محطة تاريخية . رحيل محمد مهدي الجواهري : الذات الشعرية لحظة اجتراح البطولة
نشر في الحياة يوم 04 - 08 - 1997

قد يختلف العراقيّون على كلّ شيء لكنّهم يجمعون على تبجيل محمد مهدي الجواهري، شاعرهم وأحد آخر الكلاسيكيين العرب الذي انطفأ قبل أيّام في منفاه الدمشقي، وهو في عزّ تسعيناته. جايل الجواهري القرن المنتهي، وعاشره حتّى صار ذاكرته والسجلّ الحيّ لتحوّلاته الأليمة وأحلامه المجهضة. عبَر محطّاته ومطبّاته، وتنقّل بين الأنظمة والمدن والمنافي، وفيّاً لقصيدة طالعة من تربة النجف الصافية، مشبعة بفصاحة البادية، قصيدة من عصر آخر، نفح في شرايينها الحياة، مستعيداً نبرة التخاطب الأولى مع الناس، وجعلها شاهدة على التاريخ العراقي الحديث. إنطلق الجواهري من القصر الملكي ودخل البرلمان، أسّس الصحف وانتهر الحكّام... كانت قصيدة له تهزّ بغداد، وتحمل صاحبها غالباً إلى المنفى. ولعلّ حافز الشعر لدى "نابغة النجف"، كان مرهوناً بوقائع حياته التي ترددت بين طموح إلى منصب وضيق به، بين سعي لاثبات مكانته الشعرية وزهد بهذه المكانة لأنها تنتسب إليه بالبداهة... هو الآتي من محراب لا يقبل سدنته بأقل من البحتري والمتنبي وابن الرومي وأبو تمام والشريف الرضي. ربّما كان صوت الجواهري، بالمعنى المعرفي للشعر، كمكون لغوي ومخيلة، رجعة إلى الوراء. لكنّه كان يمثل فاصلاً في وعي عربي شديد الارتباط بتراثه، وتجاوز صورة الشاعر في وجدان الناس إلى ثبات الرمز أو الايقونة التاريخية.
نودّع مع محمد مهدي الجواهري الذي رحل في أواسط تسعيناته قرناً بأكمله، ومَعلَماً يدل على ما للشعر من مكانة في ثقافتنا، وما لشاعر مثله من صلة بالذاكرة الجمعية للعرب. فالجواهري اجتاز مرحلة الشعر في ذاكرة الناس إلى ثبات الرمز أو الايقونة التاريخية، وهذا الوصف لا يدرج في باب الاطناب والمديح، بل هو كالبداهة يأتي عفو الخاطر عند من يعرف ما يجمع الشاعر الكبير والعراق الحديث من وشائج وروابط.
من هو الجواهري، هذا الصوت الهدّار الذي يتوغل بعيداً في رحاب الفصاحة حتى يكاد يبدو غامضاً لجماهيره التي رفعته فوق كل المنازل الشعرية؟ يتناسل هذا السؤال في مؤلفات عنه تتركه عند تصور لم يفارقه منذ أول حضوره: هو ظاهرة سياسية أو اشكال طائفي أو هو العراق ممثلاً باحتداماته القصوى، وعند مفترق الرغبة في تحقيق موازنة لتناقضاته.
بيد أن الجواهري بدلالة شعره، يجمع إلى شخصية منشدي الملاحم، صوت ممثل معترض لا يهدأ له بال على مسرح الأحداث، وعندما ينزل عن عرشه، يمثل قلق روح فنان في توقها إلى أن تجد لرغباتها الصغيرة حججاً تقرب إلى القداسة.
تبدأ اشكالية الجواهري وتنتهي عند فصاحته. فموهبته انبثقت في عصر كانت الفصاحة غادرت الشعر مند قرون، ورجع صداها في شعر شوقي وحافظ والرصافي وبدوي الجبل والأخطل الصغير وصحبهم كان أقل بكثير مما في قصيدته. فهم رواد بما استطاعوا أن ينهضوا به من شعر تجاوز عهود الانحطاط الفكري واللغوي متطلعين إلى اطلالة على العصر الحديث. وكان شاغلهم تطويع اللغة وحداثة المعنى مع كل معارضاتهم التي تجري على تقليد عصور الشعر العربي الذهبية. أما الجواهري فلم يشاطرهم الانشغال باللغة والصنعة الأدبية. فهو أتى من محراب لا يقبل سدنته بأقل من البحتري والمتنبي وابن الرومي وأبو تمام والشريف الرضي وابن المعتز. إن صوته بالمعنى المعرفي للشعر، كمكون لغوي ومخيلة، رجعة إلى الوراء. ولكنه كان يمثل فاصلاً في وعي عربي شديد الارتباط بتراثه. وفي العراق على وجه التحديد، كما الحال في المجتمعات المغلقة، يبدو الزمن الثقافي قادراً على أن يدخل من معابر كثيرة في دورة لا تفنى، ويظهر فيها الإتباع على هيئة ابداع يكتسب مجداً يوازي مجد صناعة الأوائل.
قدم الجواهري إلى بغداد تسبقه قصائده إلى الصحف والمجلات، كما القروي القاصد باريس لأول مرة، حسب مذكراته. فكان بعمامته وجبته النجفية مظهراً من مظاهر شعره الآتي من تاريخ غابر. فهو نشأ منذ الطفولة على حافظة لا تتوافر إلا لندرة من الناس، وشكلت تلك الحافظة أحد مصادر خياله. فالجواهري يكتب بمخيلة عباسية تنفعل بالنموذج الأمثل موقفاً وصنعة. إن شعره شعر بطولة يرى النفس فيها تتسامى على يومها ولغة هذا اليوم، لترقى إلى سحر الصورة التراثية. وتأتيه هذه الصورة عفو الخاطر من دون إعمال الذهن، ووظيفتها تحدد موقفاً سياسياً واجتماعياً.
خلافاً للرصافي، لم يكن الجواهري على صلة بعوالم فكرية أوسع من تراثه. مع أن النجف كان شديد التأثر بتيارات التحديث السياسي والفكري في تركيا ومصر وإيران، ولكن الموروث بقي طاغياً فيها، باعتبارها مركزاً دينياً، على سواه من أفكار تجديد وحداثة. وكان انفعال الشاعر الكبير بتلك الأفكار ينعكس على بعض مضامينه، ولكنها لم تشكّل مخزوناً ينعكس على سبكه اللغوي، ولا أرضيّة لقصيدة تختلف عن تلك التي تجري عليها القصيدة التراثية. ولعل من أسباب نجاح قصيدته أن الذين سبقوه كالرصافي والزهاوي كانوا على حيرة من أمر استيعاب تلك الأفكار ضمن قوالب متينة، فكانت محاولاتهم لا تخلو من ضعف، وبعض الأفكار في قصائدهم كانت تجري على مجرى لغة تشكو من نثريتها. بل جاءت أحياناً مجرد حكي عادي صيغ بوزن وقافية، يلزم الشاعر نفسه فيها بما لا طاقة للشعر على تمثله واستيعابه.
قصيدة الجواهري استعادت نبرة التخاطب الأولى مع الناس، وقامت على ايقاظ الشعور بجلال القول وحكمة المعنى. وجديده كان في قدرته على أن يحيل لغة الشعر الأولى وصوره إلى دلالات معاصرة، باحتوائها في منطويات عاطفته الشخصية ومزاجه المتقلب الناري. إن الجانب الوجداني في قصيدة الجواهري يجعل مرجعيته التراثية تنأى عن أن تكون مجرد حلية، أو تقليد أو تضمين، فقد ينظر إلى التراث بعاطفة شاعر متذوق ويعيد انتاجه بمزاج تعلو الأنا فيه على أي رغبة أخرى.
لنستمع إليه وهو يخاطب جمهوره في محفل يحضره ولي العهد ونوري السعيد:
"حشدوا عليَّ المُغريات مسيلةً
صغراً لعابَ الأرذلينَ رغائبا
بالكأس يقرعها نديم مالئاً
بالوعد منها الحافتين وقاطبا
وبتلكمُ الخلواتِ تُمسخ عندها
تُلْع الرقاب من الظباء ثعالبا
وبأن أروحَ وزيراً مثلما
أصبحت عن أمرٍ بليلٍ نائبا"
هناك توتر في قصيدته يشدّ شطري البيت في تضاد حاد، ويقوم على التباس في الوصف بين صورتين: صورة الشاعر عن نفسه التي تظهر بقرينة تشير إليها صفات الأعداء، وصورة الأعداء التي تحدث مشاكلة بين اللفظ ووظيفته. فأفعال الأعداء في ظاهرها لا تدل على عدوانيتهم، ولكن شحنة التأويل في قول الشاعر تحوّلها مساراً آخر، فهناك نبرة عالية يقوم الايقاع فيها على أفعال عنيفة حتى ولو كانت في الأصل لا تملك هذه الطاقة. إننا نكاد نسمع صوت حسد المغريات وقرع الكؤوس، ونرى رقاب الظباء وهي تتعرض للنهش، وما كان لنا أن نقترب من هذه الصور لو لم تكن مخيلتنا معدة سلفاً لتقبلها بحكم المكانة التي يحتلّها التراث في ذاكرتنا.
والذات في معظم قصائد الجواهري تقدم نفسها في لحظة اجتراح بطولة، وهي تحتاج إلى شحنة غضب تقوم عليه القصيدة الكلاسيكية الملحمية عادة. فشعر الأهاجي والمديح والرثاء، في أدبنا العربي القديم، يقوم على مبدأ تمجيد القوة والبطولة، لذا لم تخل قصيدة الجواهري من هذه النبرة. كان على الشاعر الحديث أن يبدو منكسراً ضعيفاً لكي يقلب مزاج الشعرية العربية وذائقة الناس عموماً: بدر شاكر السياب على سبيل المثال جمع الضدين في شعره، وراوح بين ضفتي النقيضين: الحزن والانكسار، والبطولة والقوة، لكي يجد شخصية جديدة لشعره. إن حكمة المتنبي التي تصف أبطاله، وأولهم نفسه، تلوح في كل شعرنا القديم، وتعود في شعره بشكل أساسي:
"التاركين من الأشياء أهونها
والراكبين من الأشياء ما صعبا"
بيد أن شاعرية الجواهري لا تدرك بوصفها كوم من الكلمات، تتحدّد قيمتها باحالاتها التراثية، بل هي أيضاً نتاج تأثير الحدث في حياته. فحافز الشعر لديه مرهون بوقائع حياته التي ترددت بين طموح إلى منصب وتعفّف وضيق به، بين سعي لاثبات مكانته الشعرية وبين زهد بهذه المكانة لأنها تنتسب إليه بالبداهة. فما كان لشاعر يقدم من النجف ويحمل كل هذه الطموحات أن يترك وشأنه. فالجواهري تعرض إلى طعنات كثيرة بما فيها الطعن بعراقيّته، وهو العربي المنحدر من الأسر العراقيّة العريقة. وتلبست بعض تلك التجاوزات صيغاً أدبية، يمكننا ان نتابعها في كتب النقد والتصنيف التي عاصرته.
الخلفيّة القبليّة للصراع
روفائيل بطي الذي يعد أول ناقد عراقي ظهر في عشرينات هذا القرن، تجاهل الجواهري في كتابته عن الشعر العراقي، وذكر شعراء أقل منه شأناً بكثير. يفعل هذا أيضاً أمين الريحاني عندما يقدم إلى بغداد، ويهاجمه في مواقع عدة منتقصاً منه ومن قيمته الشعرية. ولا يمكننا أن نفصل أسباب ذلك التجاهل والانتقاص عن مواقف دافعها التقرب من أعدائه داخل السلطة، وهم أقوياء بما يكفي للتشويش على موهبته. فالرصافي الكردي، والزهاوي ذا الأصول التركية، لم يتعرضا مثلاً إلى ما تعرض له الجواهري من تشكيك في الهويّة والانتماء. وربما يعود الأمر إلى أن خصمه ساطع الحصري كان من بناة الثقافة العراقية أيضاً، وبتطور فكره من الولاء العثماني إلى النزعة العروبية كان يمثل حالة طبيعية ضمن نسيج السلطة ومكونات النخبة الحاكمة التي أوكل اليها الانكليز مهمة إقامة الدولة العراقية الحديثة مطلع هذا القرن. فهذه النخبة تشكلت معارفها الادارية والعسكرية في رحم حاضنة الاستانة، ولم يكن للشيعة من حصة تذكر فيها.
ولكن الصراع بين الجواهري وساطع الحصري في مضمونه لم يكن خلافاً فكرياً. فالاثنان كانا من حملة الفكر العلمي، لكن المجتمع العراقي كان عرضة إلى استقطابات حادة، تبرز صراعات هي استمرار للتقاليد القبلية التي لم تستطع المدينة احتواءها. فما أكثر المعارك الثقافية والفكرية التي اذا حاولنا تقصّي خلفيّاتها، لما وجدناها بعيدة عن تلك الروح القبلية التي تتلون بتلاوين مختلفة. حتى مفاهيم الحداثة بمحاولتها إلغاء الجماليات التي تسبقها هي بقايا من تلك التقاليد الراسخة في العراق. واستطاعت المرحلة الملكية، بهامشها الديموقراطي، تحجيم تلك الصراعات وايجاد فضاء حرية، انطلق الجواهري منه ليملأ المشهد الشعري حتى ذوت بحضوره كل الاصوات التي عاصرته... حتّى استطاعت موجة الشعر الحر أن تحدّ من مده العارم، وكأنها كانت حركة احتجاج متطرفة على معمار قصيدته المتين.
لم يكتف الجواهري بالشعر منبراً للتعبير عن أفكاره، بل اختار الصحافة التي عاصر فترة ازدهارها القصيرة في العراق، وهي فترة نمو بذرة الديموقراطية التي تم وأدها بعد تسلّم العسكر السلطة سنة 1958. وكان إصدار جريدته "الرأي العام" عزز مكانته بين قادة الرأي في العراق: كامل الجادرجي، فهمي المدرس، روفائيل بطي... وغيرهم ممن اصدر صحفاً أخذت بأسباب التطور من حيث تقاليدها وتعبيرها عن الآراء المتصارعة يومذاك. وكانت لتلك التقاليد الديموقراطيّة الوليدة قدرة هائلة على تحجيم واستيعاب الصراع القبلي في العراق. ويتحدّث الجواهري في مذكراته عن مناخ الحريّة الذي كان يخوّله، في العهد الملكي، من المجاهرة بآرائه ضد السلطة من دون أن يلقى عقاباً، أو يرمى خارج حدود بلاده. فما عاش الشاعر غربته الأولى، إلا بعد أن عرف انه كان مستهدفاً من قبل سلطة العسكر، وكان صديقاً شخصياً لقائد هذه السلطة، ورئيس أول اتحاد للأدباء في العراق.
شهدت فترة الأربعينات نشاطاً شعرياً مكثفاً للجواهري امتدت فيه شهرته إلى البلدان العربية، فكانت له زيارات ولقاءات ومناسبات فجّرت ينبوع الشعر لديه. ولعل قصيدته الجميلة عن يافا قبيل احتلال فلسطين، كانت من أوّل القصائد التي تستشرف المصير المشؤوم:
"نظرتُ بمُقلةِ غطّى عليها
من الدمع الضليلِ بها حِجابُ
وقلتُ وما أُحيرُ سوى عِتابٍ
ولستُ بعارفٍ لمن العتابُ
أحقاً بيننا اختَلَفتْ حُدودٌ
وما اختَلَف الطريقُ ولا الترابُ
ولا افترقتْ وجوهٌ عن وجوهٍ
ولا الضّادُ الفصيحُ ولا الكتابُ"
في هذه القصيدة، يتخلى الجواهري عن نبرة القوة المعهودة في شعره، فيفسح مجالاً لنفسه المنكسرة التي ترقب دنوّ الكارثة من دون قدرة لها على ايقافها. ولكنه سرعان ما يسترد تلك النبرة البطوليّة وهو يكتب "فلسطين الدامية":
"يا أمةً لخصوم ضدّها احتكمت
كيف ارتضيتِ خصيماً ظالماً حكماً
بالمدفع استشهدي إن كنت ناطقةً
أو رُمْتِ ان تُسمِعِي من يشتكي الصمما".
وكانت زياراته إلى مصر وسورية ولبنان مناسبات لتوثيق عرى صداقات الادب التي جمعته بأسباب الشعر في محافل ومناسبات مختلفة. ولعل قصيدته في ذكرى المعري التي القاها في الشام بحضور طه حسين من القصائد التي يمكن أن نضعها من حيث القوة والسبك، في مصاف شعر الفترة العباسية بنماذجها المتقدمة:
"قِفْ بالمعرَّةِ وامسحْ خَدَّها الترِبا
واستوحِ من طوّقَ الدنيا بما وهبا"
وتدرج قصائده التي تغنّى فيها بلبنان في مناسبات مختلفة، ضمن القصائد التي يرقى فيها الشعر إلى الغزل بالطبيعة وبعشق الحسان:
"ناغيتُ "لُبناناً" وهل أبقى الهوى
بُقيا على قيثارتي لتقولا"
ورثى أحبته من شعرائها: الأخطل الصغير، إلياس أبو شبكة، عمر فاخوري وغيرهم. وكانت له في مصر وسورية قصائد تتغنى بهما أرضاً وشعباً:
"يا مصرُ مصر الأكثرين ولم يزل
في الشرقِ يرضخُ للأقلّ الأكثر
وبَنوكِ والتاريخُ في قصبيهما
يتسابقانِ فيُصهَرون ويُصهَر"
وكانت سورية المقام الأقرب اليه بعد العراق، إذ بدأت زياراته المتكررة إلى دمشق في فترة مبكرة من حياته الشعرية. فهي بحكم الجوار، وطبيعتها التي عشقها، والصداقات التي تربطه بمثقفيها، من الأماكن التي كان يقصدها كلما ضاقت به الدنيا، وهو المنشد فيها:
"وضوّت من جبينكِ في غضون
بها يغْني الزمانُ عن الكلامِ
وطُفْتِ بخاطري حتى تمشّى
حنانُكِ مثلَ بُرْءٍ في سَقامِ"
هل نستطيع أن نقول إن غزل الجواهري وشعر الطبيعة لديه، يرقيان إلى شعره الآخر؟ كما هو حال الشاعر الأموي والعباسي وجد الجواهري في هذا الشعر فرصة للاخلال بميزان النظام الصارم، وميزان العاطفة الشعرية أيضاً. ولكنه لم يكن كالشاعر الأموي أو العباسي في نماذجهما المتقدمة: مسلم بن الوليد وأبو نؤاس أو الشريف الرضي... بل انّه أقرب إلى بشّار بن برد في بداوته وفحشه.
ولعل قصائد الحب لديه أضعف شعره، وعلى وجه الخصوص تلك التي كتبها في العراق. فالمرأة حتى لو عرفها أماً وزوجاً وأختاً، غريبة عن شعره، مقصية عن عاطفته الحقيقية. أو أن تلك العاطفة التي تشكّل حوافز قوله، لا تستطيع الاقتراب من المرأة الا كموضوع للمتعة الجسدية. وربّما لعبت أنيتا الأوروبية التي عشقها، دوراً في تطويع بعض هذا الشعر، واخراجه من مناخه الأوّّل. كما أن الاقامة في أوروبا انتجت قصائد الغربة الجميلة: "يا دجلة الخير"، "أرح ركابك"، "بريد الغربة" التي أطالت من عمر مكوثه فوق عرش الشعر، على الرغم من انتشار موجة الشعر الحرّ، وطغيانها على كل ما عداها.
ولم يتنازل الجواهري عن عرشه لفتيان القصيدة الجديدة. وكانوا، هم أيضاً، مدركين ما للجواهري من مكانة بين الناس يصعب زعزعتها، ولم يقتربوا من حدود مجده، على رغم الهجوم الذي شنّوه على فن القريض. فكان الأب الروحي الذي يذكره الجميع باحترام وتقديس. وحاول الشاعر الكبير،من جهته، أن يطوع شكل نظمه مقترباً من فن الموشح، متجاهلاً موجة هذا الشعر الجديد، ومتملقاً جمهورها في الوقت ذاته. بيد أن تلك الأشعار لم تترك الأثر الذي تركته قصيدة الجواهري الآتية من زمن يستعيد عنفوان الشعر، في زهو القول وجلاله
"طاقية" الجواهري
منذ الستينات تلازم القبعة رأس محمد مهدي الجواهري. "طاقية" شرقية، من تلك المعهودة في آسيا الوسطى، وعليها أحرف منسوجة، كل "طاقية" ولها حروفها الخاصة بها. وهي لم تغادر رأس الشاعر، لا في النهار ولا في الليل، منذ أكثر من ثلاثة عقود. ولپ"طاقية" الجواهري قصة هي الأخرى:
"في عهد عبدالكريم قاسم، سافرت للمشاركة في لقاء مع إتحاد الكتاب السوفيات بصفتي رئيساً لاتحاد الأدباء العراقيين. فاحتفوا بي في موسكو، وسألوني إذا كنت أحتاج علاجاً. وبعض أسناني ركّبه لي طبيب ستالين. أجريت فحوصات عامة في مصح مخصص للمكتب السياسي، كان يعالج فيه خروتشوف. وكانت النتيجة أن صحتي جيدة، لكن، قالوا إن لديّ حساسية في الرأس، فيجب أن أضع على رأسي قبعة في الصيف وفي الشتاء. قرب المصح كان هناك حانوت صغير يبيع أشياء من جملتها "الطاقيات". ولاحقاً زودني جلال الطالباني الذي كان مقيماً في موسكو، ب "طاقيات": واحدة عليها نقش "كردستان" والثانية عليها اسمي "الجواهري"... ومن يومها ألبس الطاقية في النهار وفي الليل، وإذا حدث أن سقطت الطاقية عن رأسي في الليل استيقظ مباشرة، وألبسها لأستطيع النوم".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.