أن يكون هناك طموحات تنموية واقتصادية واسعة لدولة ما فذاك حسن، وأن يكون هناك مشروعات اقتصادية مستوحاة من تجارب اقتصادية أخرى فذاك حسن أيضاً، لكن أن يكون طموحك بناء على الابتكار والإبداع ومن خلاله تقدم للعالم آفاقاً جديدة لم يعتدها من قبل فذاك الحسن كله! والقصد المعلى هنا هو مشروع "أكساجون" حيث الاستدامة والطاقة النظيفة والبحث والابتكار والمنهجية المؤتمتة والمتكاملة والفكرة الاقتصادية المتقدمة، أطلقته قيادتنا الطموحة مؤخراً ضمن المشروع الأكبر "نيوم"، لينضم إلى العديد من المشروعات الحيوية، وليكون أكبر مدينة صناعية عائمة في العالم، التي ستعيد تعريف توجه العالم نحو التنمية الصناعية في المستقبل، وقد وصفها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- "بالمدينة الصناعية التي ستكون حافزاً للنمو الاقتصادي والتنوع في نيوم خاصة، والمملكة بشكل عام، مما يلبي طموحاتنا في تحقيق مستهدفات 2030". العام 2018 تناول باحثون من الجامعة الأسترالية العريقة "نيو ساوث ويلز" تصنيف مجتمعات الطاقة النظيفة المستقبلية، وحاول الباحثان غوي وماكغيل عبر هذه الدراسة تقديم هيكل استكشافي، مع إبراز الفرص والتحديات، وخلصت الدراسة إلى أن مسارات الانتقال إلى بيئات منخفضة الكربون ستتنوع، مدفوعة بالسياقات الاجتماعية والتكنولوجية والتنظيمية، وتتشكل من خلال عمليات التغيير المؤسسي، والتفاعل مع النظام الحالي والجهات الفاعلة الحالية. وأضافت الدراسة أن رواد الأعمال والمرافق الاجتماعية والتكنولوجية التي تعمل في بيئة يحددها مستهلكو الطاقة بشكل متزايد ومجموعات الصناعة والجهات الفاعلة السياسية، تحتاج إلى أن تكون قابلة للتكيف ومبتكرة في اختيار الاتجاهات الاستراتيجية، وقرارات الاستثمار المرتبطة بها، وإنشاء التحالفات المناسبة، والحصول على الموارد، وتحقيق أهدافهم في هذا التحول للطاقة النظيفة. وبين هذه الدراسة ودراسات أخرى اتساق مع مسارات عمل مشروع "أكساجون" الذي يعتمد مبدأ الاقتصاد الدائري، ليكون بمثابة قبلة اقتصادية تتجه نحوها الصناعات المتقدمة، كما ستنشئ نظاماً متكاملاً للطاقة النظيفة، يطبق فيه مفهوم "الاستخدام المتعدد" عوضاً عن "الاستخدام الواحد" للحد من الهدر وتعزيز الإنتاج. أما البعد الآخر المهم من هذا المشروع العظيم فهو تطويع عدة استراتيجيات متباينة لتكون منسجمة ضمن مشروع واحد حديث، ف"أكساجون" يعمل وفق أربع استراتيجيات نابضة: مركز للتصنيع المتقدم المستدام، وميدان حيوي للتجارب والبحث والابتكار، وفي الوقت نفسه هو ميناء بحري تربطه بالعالم سلسلة إمداد فائقة التطور تعمل بمنهجية مؤتمتة ومتكاملة وتتبنى تقنيات الجيل المقبل، أما الإطار الصحي للمشروع فهي طاقة نظيفة بنسبة 100 %، والحق أن كل ذلك تتدافع دونه نشوة الإبهار والإبداع على حدٍ سواء، لكني أؤكد أن هنا يوجد مرفئ أراه أصبح رئيساً في كل مشروعاتنا مؤخراً، وهو مرفئ البحث والابتكار الذي يعد المحدد الأهم لتطور المشروع وتقويمه قبل تقييمه، وسبق أن أشرت غير مرة في مقالات سابقة إلى أهمية البحث العلمي وتجسيده كثقافة عمل أساسية في كل مشروعاتنا وطموحاتنا. أما الإطار الصحي والحيوي الذي يتسابق إليه العالم المتقدم فهو "الطاقة النظيفة"، ورغم أن أغلب التجارب العالمية حتى الآن تتمحور حول الطاقة المتجددة وليس بالضرورة النظيفة كلياً، إلا أننا يمكن الإفادة من تلك التجارب الطموحة وإن كانت الظروف والتحديات ومستوى الطموحات مختلفة من مكان لآخر، فمثلاً بلد ك"آيسلندا" يعمل بالطاقة المتجددة بنسبة 100 %؛ يحصل على 75 % من الكهرباء من الطاقة الكهرومائية، و25 % من الطاقة الحرارية الأرضية، كما تستفيد الدولة من نشاطها البركاني للوصول إلى الطاقة، حيث يأتي 87 % من الماء الساخن والتدفئة من هذا المصدر. وكما هو معلوم فإن موقع آيسلندا معزول عن أوروبا على حافة الدائرة القطبية الشمالية وبالتالي التحديات أمامها أصعب في تحقيق طموحاتها الاقتصادية والتنموية، ومع ذلك استطاعت أن تصبح نموذجاً عالمياً في الطاقة المتجددة، وتمتلك هواء أنظف بسبب استخدام مصادر متجددة بدلاً من الوقود الأحفوري. ومع "أكساجون" القائم على دمج التقنيات، وسرعة الإنجازات ثمة تحديات تواجه الصناعيين الوطنيين كي ينافسوا الصناعات العالمية المتقدمة، تتمثل في تهيئة بيئة الأعمال الصناعية، والتأكيد على أهمية تغيير سياسات وأنماط الإنتاج الصناعي غير المستدام بما يتواءم مع رؤية 2030، وضرورة الاهتمام بالكفاءات العلمية ورواد الأعمال والابتكارات وإنشاء حاضنات صناعية تكنولوجية لإنجاز مشروعات صناعية قابلة للتنفيذ والاستمرارية وقادرة على المنافسة، وتوفير قاعدة معلومات صناعية تساعد في بناء دراسات اقتصادية للمشروعات الصناعية، وتأمين البنية التحتية من سلاسل الإمداد والدعم اللوجستي، والعمل على تطوير الإدارة الصناعية، ولدينا نموذج ناجح على ذلك هو الهيئة الملكية للجبيل وينبع؛ حيث جذبت أفضل الكوادر البشرية المميزة في المملكة، وعملت على انتقاء المستثمرين من خلال جذب استثمارات ذات قيمة مضافة والتطوير التدريجي للأداء المالي وزيادة الفاعلية، حتى أصبحت مدن الهيئة تساهم ب71 % من إجمالي الصادرات الصناعية، وبلغ حجم الاستثمارات الحكومية والخاصة ما يربو على 1000 مليار ريال، وأصبحت المملكة تحتل المرتبة العاشرة عالمياً في إنتاج الصناعات البتروكيميائية، وأتمنى أن تعمم تجربة "الهيئة الملكية" على جميع المدن الصناعية في أرض المملكة. وهذا ما تعمل عليه قيادتنا الحكيمة -حفظها الله-، فالمملكة في كل مشروع جديد لا نجد فيه فقط محاولة الإصلاح والتقدم، بل منافسة العالم الأول واستنطاق المشروعات والأفكار التي لم تتحقق بعد عالمياً والتي لم تطغَ عليها مصلحة الاقتصاد فقط بل بما يتسق -أيضاً- مع متطلبات "الإنسان" وقدرته على العطاء والإبداع. سعد بن إبراهيم المعجل