كانت كلمة (أدب) منذ عصور غابرة تؤدي معنى حسيّاً يشير إلى الطعام، والدعوة إليه، ومن ذلك (المأدبة)، وكان يقال للداعي إلى الطعام (آدب)، ثم أخذت هذه الكلمة في التطور في عصر صدر الإسلام وما بعده، فأطلقت على لون من التهذيب المعنوي (التأديب)، ثم ارتبطت بمفهوم آخر علمي عندما ظهرت حركة (المؤدبين) فيما بعد، ثم تطورت بشكل أكبر، إلى أن أخذت تدل على بعض العلوم، والمعارف التي كانت تندرج تحت ما يعرف بالأدب، أو الآداب، وتتبع دلالة هذه الكلمة تاريخياً ولغوياً قد يطول بنا إلى ما ليس هذا مقامه. والذي يظهر أن الأدب لم يكن علماً في بادئ الأمر، وإنما كان موضوعاً، وغاية، ثم أخذت تتشكل ملامح علميته عندما كثر التأليف فيه، وظهرت الكتب التي تؤكد على أهم وظائفه ومعانيه، فرسّخت للمصطلح العلمي، على نحو ما هو معروف مثلاً في كتب: (الأدب الصغير)، و(الأدب الكبير)، و(أدب الكاتب)، و(الكامل في اللغة والأدب)، و(أدب الكتّاب)، وغيرها، ثم صار الأدب أكثر توسّعاً بحيث يشتمل على الشعر، والنثر، وما يرتبط بهما، ويجري على منوالهما. ويعد ابن خلدون (ت808 ه) من الذين نعتوا الأدب بأنه (علم)، حيث قال: «هذا العلم لا موضوع له، ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور، على أساليب العرب ومناحيهم..»، ثم سار بعده المؤلفون على (علمية) الأدب، كما فعل المقري التلمساني في (نفح الطيب)، حيث يقول: «إن علم الأدب في الأندلس كان مقصورًا على ما يُحفظ من التاريخ، والنظم، والنثر، ومستظرفات الحكايات، وهو أنبل علم عندهم، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غُفْل مستثقل». على أن ابن خلدون لم يكتفِ بجعل الأدب (علماً) بل إنه وسع من دائرته حتى جعله فنّاً؛ لذلك يقول في موضع آخر من المقدمة: «ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا (الفن) قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف..»، ثم يقول: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا (الفن) وأركانه أربعة دواوين..». ومن الغريب أن تجد بعض النحاة اليوم ينظر إلى الأدب نظرة قاصرة، وكأنه لم ينتبه إلى ما فعله الزمخشري (ت 538ه)، عندما جعل كثيراً من علوم اللغة ضمن الأدب، أو أنه لم يعبأ بتصنيف أبي البركات الأنباري (ت577ه)، عندما ترجم لهشام الكلبي في كتابه المعروف ب(نزهة الألباء في طبقات الأدباء) فقال: «كان عالمًا بالنسب، وهو أحد علوم الأدب؛ فلذلك ذكرناه في جملة الأدباء، فإن علوم الأدب ثمانية: النحو، واللغة، والتصريف، والعروض، والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب، وأنسابهم، وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما، وهما: «علم الجدل في النحو، وعلم أصول النحو»، ومن ينظر مليّاً في هذا الكتاب يجده مملوءاً بتراجم النحاة؛ وهو ما يشير إلى أن الأدب أصل، والنحو فرع عنه. واليوم اتسعت رقعة الأدب، فلم يعد علماً، وفناً فحسب، بل تحول إلى (نظرية) تقوم على الجماليات، والظواهر المؤدية إليها، لغوية كانت، أو بلاغية، أو اجتماعية، أو غيرها، ومن هنا عَدّ الناقدُ (رينيه ويلك 1995م) الأدبَ «مؤسسة اجتماعية أداتها اللغة تمثل الحياة بأبعادها المختلفة».