مرَّ هذا الأُسبوع «اليومُ العالمي للُّغة الأُمّ» (21 شباط/ فبراير وفق قرار منظمة اليونسكو في جمعيَّتها العمومية الأَربعاء 17/11/1999). وانتشرت المقالات والنصوص والآراءُ في هذا «اليوم»، كأَنما لا استذكارَ لهذه «الأُمّ» إِلَّا يومئذٍ. لا أَستسيغ هذا الاستذكار مع أَنه «شرعيّ» كما سائر «أَيام» عالمية حدَّدتْها اليونسكو. فللأُم منحى آخر. وكما تُصانُ وتحترَم كلَّ يوم، كذا اللُغة تُصانُ وتُحترَم كلَّ يوم. نَصونها كيف؟ باحترامها. متى؟ بالمعاملة. ف»إِنما الدين المعاملة». إِذًا تَعامُلُنا معها يرتقي إِلى تقديرها بالمرتبة القُصوى: «أُمَّكَ، أُمَّكَ، أُمَّكَ ثم أَباك». وكذا اللغة الأُمّ بجلالها الأَقصى. حين نتحدَّث عن وهْنها لا نقصدها هي بل مستخدميها. اللغة من الثوابت فلا تُنال هيبتُها. المتغيرات تتبدَّل، تَهِنُ، تَهي، وذلك لا يمسُّ الأَصل. إِذا بي ضعف في عينيَّ ولا أَستطيع النظر إِلى الشمس، يكون الضعف في عينيَّ لا في الشمس. مَن يَصون اللغة؟ الكُتَّابُ في نُصوصهم: شعرًا تكون أَو نثرًا، والناطقون بها إِعلاميون ومدرِّسون. إِذا المدرِّسُ مُعيد (وهذا حجمُه) والإِعلامي مفيد (وهذا دوره) فالكاتب مُجيد: وهنا دوره في التجديد. والتجديد لا يكون طافرًا على الأُصول، بل من نُظُمها والتشدُّد في اتِّباعها واشتقاق الجديد منها إِبداعًا رائدًا، وإلَّا فنصُّه، شعرًا كان أَو نثرًا، يظل اتِّباعًا باردًا. وفي أَدبنا العربي الكثيرُ من الاتِّباع والقليلُ من الإِبداع. وهذا من فقر الكتَّاب حيال غنى لغتنا. ليست العربية، كما في الشائع، لغةً صعبة. هي ابنةُ العقل والمنطق. فهل العقل صعب؟ أَو المنطق معقَّد؟ ليس في العربية قاعدة لغوية أَو بلاغية أَو إِعرابية صعبة أَو معقَّدة. ما المعيار؟ المنطق، القياس. نقيس كلمة بأُخرى نعرفها، فيستقيم لنا الاستعمال. تبقى، بين بعض ما يَخرج عن القياس، قاعدةُ عين المضارع، وهي ليست مُقَوَنَنة. ما الذي يسوِّغها؟ المراس. وإِن تعثَّر المراس فالقاموس. ولا أَعرف كاتبًا يحترم قلمه وقارئه إِلَّا والقاموس على طاولته مجاورٌ أَوراقَه البيضاء. ومن عبقرية لغتنا أَنها ذاتُ لسانَين: المكتوب والمحكي. وتاليًا على مَن يمتشقُها، أَو الأَصح: من يجرؤُ على امتشاقها أَو يغامر بالنطق بها أَو الكتابة بها، أَن يكون على مستوى إِقدامه. من هنا الخطأُ في تعميم عبارة «الناطقين بالضاد»: ليس خارجَ الشفويّ مَن «ينطق» بالضاد بل مَن يكتبها. وإِذا مَن يرتجل ليس فارسَ لغةٍ ويُخطئ، فليس على مَن يكتب أَن يُخطئ، لأَن عليه احترام قواعد اللغة. يحترم، نعم. لذا دعوتُ في مطلع مقالي أَعلاه إِلى أَن نصون اللغة باحترامها كلَّ يومٍ «لُغةً أُمًّا»، والأُمُّ تُصانُ وتُحترَم كلَّ يوم.