في الوقت الذي حلّت العراق كضيف شرفٍ في معرض الرياض الدولي للكتاب، جاءت تصافحنا بكرمها الثقافي، وعمقها الأدبي، وفنها المتنوع بين القصائد الشعبية والفصيحة، والموسيقى والأغنيات، ورموزها الثقافية الكبيرة بأسمائها، واللافتة بسيرتها وأعمالها. فما بين الأعمال الكاملة في ديوان محمد مهدي الجواهري وديوان بدر شاكر السياب، والتي اعتلت أرفف دور النشر، معلنة عن رحلة عراقية مطولة عبر قصائدهم، وصولاً إلى الأمسيات الشعرية التي تجملت بها ليالي الرياض بحضور نخبة من شعراء العراق أمثال عارف الساعدي وشعراء العالم العربي أمثال روضة الحاج وأحمد بخيت، وشعراء السعودية والذي احتفى بعضهم بالعراق، مثلما قال جاسم الصحيح: «هنا العراق ولولا ماء دجلته ... ما كان صلصالُ هذا العالم انعجنَا هنا العراق تأمّل في ملامحه ... تلقَ الجزيرةَ مصرَ الشامَ واليمنا» وإذ تأملنا في أهم المعالم الثقافية لأي بلد فإننا نجد الأماكن التي تحفظ تاريخ البلاد لتسجل ذكرى من مروا خلالها أو تركوا أثراً فيها، وتظل شاهدة على مجدهم وهزائمهم، وماضي أجدادهم وحاضر أبنائهم ومستقبل الأجيال من بعدهم، وتخلّد أعمالهم الأدبية ونتاجاتهم والفكرية. ولعل من أبرز ما كان حاضرًا لنا من خلال تواجد العراق في معرض الكتاب، هو شارع المتنبي الذي اكتسب شهرته من دوره الثقافي في بغداد، فهو يعتبر معرضاً دائما للكتب التي تُباع على أرصفته، ومحطة التقاء الأدباء والمفكرين والمثقفين، لا سيما مع تواجد المقاهي الأدبية التي لعبت دورًا كبيرًا في أنشطتهم الثقافية والأدبية قديمًا، وساهمت في تكوين الجو المناسب لقضاء الوقت في القراءة، ونظم الشعر وعرضه فيما بينهم، وتناول الشؤون الاجتماعية والفنية، وتبادل الآراء والجدالات والنقد. يعد مقهى الشابندر الواقع في نهاية شارع المتنبي أقدم المقاهي وأكثرها شهرة بين مرتاديه من الأدباء والصحفيين ورؤساء التحرير ومثقفي المنطقة، وقد تحول إلى مقهى في عام 1917 بعد أن كان مطبعة بنفس الاسم. كذلك مقهى الزهاوي الواقع في شارع الرشيد والذي يعود تأسيسه إلى ما قبل 1917م، وقد كان المقهى ملتقى للشخصيات المهمة التي قدمت أدواراً وطنية في تاريخ بلادهم، أمثال الشاعر الجواهري، والسياب، والدكتور علي الوردي، كما كانت تقام فيه احتفالات شعرية للشاعر معروف الرصافي والتي تتحول إلى مظاهرات وطنية. إن للموسيقى وقع مهم في تشكيل العملية الثقافية لأي بلد، وذاكرة صوتية تؤكد على أنها فعل إنساني يخاطب الروح، تقف خلفها قصص لا تفنى، وتقدم لكل مستمع لها رحلة إلى المعاني المختلفة، كما يمكن للأغنيات أن يكون لديها القدرة على توصيل ثقافة بلد من خلال كلماتها ولهجتها وقصتها. فالأمسية الموسيقية للفنان نصير شمه وسعدون جابر، والتي تمت إقامتها ضمن الفعاليات المصاحبة لمعرض الكتاب، جاءت بنغم عراقي عربي شرقي معبّر، وإحدى معزوفاته التي استعرضها في تلك الليلة سُميت بال(الطريق إلى شقلاوة)، نسبة إلى مدينة طفولته التي نشأ فيها في إقليم كردستان العراق، وقد صاغ في معزوفته الحنين إلى الطفولة. روضة الحاج جاسم الصحيح عارف الساعدي