فوجئ عالم الأَدب، الأُسبوع الماضي، بمنْح الأَكاديميَا السويدية جائزة نوبل للأَدب هذا العام الروائيَّ التَنْزاني عبدالرزاق قُرنَة (غورنا) على مجموعة أَعماله التي تعالج مسائل الهجرات وانعكاساتها المأْساوية، عرَضَ في معظمها ما يتعرَّض له العرب والأَفارقة في أُوروبا من اضطهاد وتمييز عنصري. وكان لافتًا في تصاريحه بعد نيله الجائزة أَنَّ على أُوروبا اعتبارَ "اللاجئين من أَفريقيا إِليها ثروةً بشرية كبرى بِما يحملون من إِرث عريق، لأَنهم لا يأْتون إِليها فارغي الأَيدي متسوِّلين بل موهوبين مزوَّدين طاقةً تراثية غنية". يأْخذني هذا الأَمر إِلى بعض الأَدب العربي المعاصر يريد التقرُّبَ من الغرب فإِذا به يعاني من تَبَعيّةٍ بنقيضَين: الغربي الحديث والتقليديّ القديم. أَي أَنه إِمَّا اتّباعيٌّ كسولٌ للإِرث العربي لا يسعى إِلى التجديد، وإمّا اتّباعيٌّ كسولٌ لطراز الغرب يأْخذ النموذجَ الغربيّ كما هو غير متتبِّعٍ مراحلَ وُصُوله، كمَن بلغَ مصبَّ النهر فاكتفى ولم يتتَبَّع المراحل التي قطعها هذا النهر. هكذا يأْخذ موضةَ الغرب ويتبنّى نماذجه الأَدبية فإذا به يَحيا نماذج سواه: لا ينفعل بها فيبقى غير فاعلٍ بنا ولا بأَدبه شعرًا ونثرًا، ويضيع بين حاضرٍ غربِيٍّ مستورَد وماضٍ تقليديّ جامد. يخرج من لباسِه ولَم يَسْتَوِ عليه اللباس الغربِيّ فَيُعاني نصُّهُ من قسوة التصنيف واضطراب صِيَغِ التعبير. إِنّ للغرب ظروفَه ومعطياتِه. وكم من شاعرٍ عربي تأَثَّر بشِعر الغرب وقَلَّدَ موضته ببَّغائيًّا فخاصمَ الجمال الأَدبي العربي والجماليا الفنية العربية خَجَلًا بالغنائية الشرقية. كانت قصائدُ شعرائنا عابقةً بالإِرث العربي ذي الأَبعاد الإِنسانية والتراثية والحضارية. وحين انجرفوا إِلى موجة الغرب أَفرغوا رموزهم من مضمونِها العربي المتجذِّر تراثيًا. وهنا خطأُ الكثيرين من شعرائنا: أَرادوا التخلُّصَ كليًّا من القديم ليكونوا "جُدُدًا"، فيَما المنطق السليَم: بقَدْرِما يعرف الشاعر أَن يغرف من جيِّد القديم، يكون حديثًا ويُبدع جديدًا. التجديد يكون من ضمن الأُصول لا بالخروج عليها. فالشعر بطبيعته اقتحام، ولا يكون اقتحامٌ خارج دائرة الهدف. التجاربُ الشعرية في العالَم؟ فلْنواجهْهَا بإِرثنا نحن لا بصورةٍ لها من عندنا. العالمية نبلُغُها بطرازِنا المحليّ العصري لا بارتدائنا طرازَها ثوبًا مستعارًا ذا تسمياتٍ غربية مستورَدَة (الشعر المنثور، الشعر الحرّ، الشعر الحديث، الشعر الإِلكترونِي، قصيدة النثر، الكتابة الآليّة، قصيدة البياض...). لن ينقلَنا الغرب إِلى آدابه إِذا استعرْنا ثيابَه وجئنا بها إِليه. وإِن هو نَقَلَنا فَمَوجَةٌ تنقُلُ موجة، حتى إِذا سقَطَت الأُولى ذاتَ يومٍ بفِعْل زَبَدِيَّتِها سقطَت معها الأُخرى في درْكٍ عميق. الغربُ ينقلَ أَدبَنا بطِرازِنا المتميّز عنه والمغاير إِياه. العالَم نقَل طاغور إِلى أَكثر من 25 لغة، كما هو، ببساطته التي تبدو سذاجةً لضِعاف النظر فيما هو، بِمَحَلِّيَّتِه الهندية المتميّزة، قطَف جائزة نوبل الآداب (1913). الشمولية تبدأ من الذاتية الفرديّة، والعالمية تبدأ من الأَصالة المحليّة. والتجديد لا يكون برفض منابع الأُصول والجذور والتراث بل من ضمْنها وباسمِها ولأَجلها. عندئذٍ يحترمنا العالم وينقلُنا إِلى لُغاته.