هل يحصل الكاتب على جوهرة الإبداع بالدراسة أم بالتدريب والممارسة؟ وهذا أمر محير حيث يرى العظماء المسرحيون أن الكاتب المسرحي يولد ولا يصنع، بمعنى أنه يولد وفيه تلك الجوهرة وتظل كامنة حتى يأتي أوان انطلاقها إذا أتيح لها ذلك.. إنه ذلك الرقيب الخبيث الذي لابد أن نطرده من غرفة الكتابة لأن الكتابة تأبى أن يولد وفي محيط الغرفة وبها رقيب، ومن تجربتي الذاتية حيث إنني درست النقد إلى جانب الدراما وحرفية الكتابة، جعلت من ذلك الناقد الثقيل القابع لجواري أمراً لابد من التخلص منه، فأقوم بعملية طرد صريحة له من غرفة الإبداع لكي يتسنى للمولود الجديد أن يخرج إلى النور. يتساءل روجر بسفيلد عن عملية الإبداع فيقول: إذا سلمنا بهذه التي نسميها السليقة المسرحية فهل هي لون من ألوان النشاط الواعي أو نشاط العقل الباطن، أو أنها من ألوان النشاط اللا شعوري والذي يصدر عن صاحبه بدون وعي؟ وكثير من المنظرين يرون أن تدخل العقل الواعي قد يعوق عملية الإبداع فيقول هارتلي مانرز: (إن تحميل العمل قدراً كبيراً مبالغاً فيه من الموضوعية يكون خطراً كبيراً على الباعث المبدع أو الخاطر الخلاق). فاستعمال العقل والمبالغة في تحليله من قبل المبدع أمر غير مرغوب فيه، فقد يفسد ما بين يديه من عمل إبداعي، هذا وأنه يجب العناية والرعاية لتلك الموهبة أكثر من أي قدرات فنية مكتسبة. فتقول كروثرس: (إن كل شيء بل كل الأشياء الأخرى عدا الباعث المبدع سوف تنضاف إليه عفواً). وكأنها تقول إن كل شيء يمكن أن يضاف إليه ما دام هذا الباعث متوفراً لديه، وإن مراقبة المبدع لإبداعه وتفحصه إياه وشكه الدائم في صلاحيته يعد أمراً مدمراً للإبداع، فالعملية تكمن في أن يدع سليقته تنساب دونما تدخل منه إلا بشيء من الفهم لما يكتبه هذا وإلا دمر كل ما يكتبه إنه يجب طرد عنصر الخوف لدى المبدع فيبدع دون خوف أو مواربة لكي يفك تلك القيود المسلسلة لعالم اللا شعور والتي تتدفق منه كل الخبرات المرجعية إذا فتح. فالخوف من النقد أو الحرص على التحليل يجعلان الكاتب قابعاً بين أوراقه لا يخرج عن إطارها إطلاقاً يقول "جولسورىذي" عن طبيعة الفنان الذي يعمل بخياله: (إن الطبيعة حساسة يمكن التأثير فيها.. طبيعة ملول لا تصبر على أي شيء ينتج عنها) هذا التأثير سهل ما ينال من كنه العمل الفني فيعود إنتاجه على وجه جيد والخوف من إنتاج عمل جيد من عدمه هو ما يطمس عملية التخيل فيقول "جولسورىذي": (إن ثمة شيئاً ما مدمراً في فحص عملية الخلق فحصاً متعمداً متعيناً إنها أشبه بأنثى الطائر الخجول خجلاً لا يفارقها، والتي قد تمتنع فجأة عن وضع أية بيضة إذا كانت عرضة لكثير جداً من التفحص وعمليات الجس والاستخبار). يعد أشد الأداء غموضاً وتشعباً في بنية التأليف المسرحي الذي تكتنفه الألغاز هو تلك الآراء التي تدور حول السليقة. فهل الفعل والإبداع يرجعان إلى العقل أم إلى اللا وعي، أم إلى اللا شعور؟ يقول بسفيلد: (إما أن نعرف بالضبط ذلك الذي يحاول الإنسان أن يميزه فعمل بالغ الصعوبة والعسر، إن لم يكن عملاً مستحيلاً). إلا أننا نرى أن سعة الأفق والخيال الدافق لدى الكاتب المسرحي هما ما يؤهلانه إلى أن يضع إصبعه على نبض الجمهور، ولكن هل هذا الخيال دافق القريحة المستفيضة يأتي عبر جينات يولد بها الكاتب أم أنها مكتسبة؟ هناك آراء ترى أنه - أي الكاتب - لابد أن يولد ولكنني أرى أن هناك من يخضع مسرحياته للعلم والدراسة ولكن مسرحه يأتي باهتاً خالياً من الروح النابضة، فكثير من الكتاب الأكاديميين صنعوا مسرحهم بناء على دراسة وعلم وتجربة فتأتي مسرحياتهم محكمة دونما أي هنة درامية ولكنها ينقصها الروح المنبعثة من بين ثناياها، ولذلك نقول إن الكاتب المسرحي يولد ثم يصنع. والكثير من النقاد يرجعون سليقة التأليف للعاطفة الجياشة فيقول بسفيلد عن بعض المؤلفين العظام: (إن رقتهم وسعة أفقهم كانتا في كثير من الأحيان شيئاً عظيماً رحيباً). لذلك فإن سعة الخيال ورقة العاطفة هما سمة مهمة بل أساسية في تكوين المؤلف المسرحي ثم يقول أون ديفز: (ليس ثمة كاتب يمكن أن ينجح في كتابة تمثيلية أدنى من مستواه العقلي). وكأنه هنا يساوي بين العقل والعاطفة لدى المبدع الكاتب ولكن الكاتب الجيد هو ذلك الذي يخفي ذكاءه وعقله خلف عقله، فإذا تجلى العقل أثناء الكتابة المسرحية أفسدها لأنها تعتمد على ذلك الوجع غير الموصوف من السباحة اللا إرادية في عوالم أخرى من الخيال، ولكنه ينبغي أن يمسك بلجام القلم وبالذات الكاتب المسرحي. فاللغة وتركيز الحدث من أهم ما يصنع المسرحية الجيدة، فالمهارة والمزاج يجتمعان لحظة الكتابة تقول "راشيل كروترس" في محاضرة لها في جامعة بنسلفانيا: (سواء استطاع الإنسان أن يكتب تمثيلية أو لم يستطع فهذه ليست مسألة ذكاء أو خبرة فقط، ولكنها مسألة ذلك الشيء الغامض الذي لا يمكن تعريفه أعني السليقة المسرحية). هل يحصل الكاتب على جوهرة الإبداع بالدراسة أم بالتدريب والممارسة؟ وهذا أمر محير حيث يرى العظماء المسرحيون أن الكاتب المسرحي يولد ولا يصنع، بمعنى أنه يولد وفيه تلك الجوهرة وتظل كامنة حتى يأتي أوان انطلاقها إذا أتيح لها ذلك ويميز "بوللوك " في كتابه بين الشاعر والكاتب المسرحي، فيقول: (إن الشعراء قد يولودون أو يصنعون تبعاً للميدان الذي يشغلونه، أما الكتاب المسرحيون فلابد أن يولدوا ثم يصنعوا). ومن هنا تبرز قيمة الموهبة في الكاتب المسرحي على وجه الخصوص حيث إن الشاعر يمكن أن يصنع بالتعليم والتمرين والممارسة، أما الكاتب المسرحي فلابد أن يولد وتحت لسانه تلك الجوهرة. والكتابة لحظة الإبداع ما هي إلا طاقة روحية متدفقة هذه الطاقة تمنح لهذا الكاتب وتحرم منها ذاك وهذه الطاقة لا تستجلب بالمرة، فالسليقة أو الموهبة لابد أن توجدا لدى الكاتب قبل أن يشرع في عملية كتابة المسرحية يقول "سومرست موم" عن الكاتب المسرحي: ( لابد أن يولد وفيه هذه البذرة .. هذه الجرثومة .. هذه الموهبة). هذه الجرثومة التي وصفها موم - على حد تعبيره - تعني الموهبة والتي سماها أفلاطون بالإلهام ولكن أفلاطون تخيل أنها عملية وحي إلهي "من الإله أبولون"، ولهذا كان رأيه هذا به شيء من الشطط، فعلماء القرن العشرين أنزلوا العملية الإبداعية من السماء إلى الأرض إلى أغوار النفس البشرية، فيقول "جورج برنارد شو" ذلك الكاتب المسرحي العظيم: (إن الطبيعة .. يقصد دواخل النفس تقوم ولابد بتسعة وتسعين من المئة من عملية الكتابة المسرحية). وقد صرح بذلك أحد رجال المدارس المعاصرة: (بأن الإنسان إنما يرغب في الاضطلاع بهذا العمل المرهق الشاق، المضني للذهن والجسم والذي تجشمه إياه الكتابة المسرحية، لأنه إنما ولد كاتباً مسرحياً). ولكنه يجب أن يوضع هذا المالك للجوهرة في جو مناسب ومناخ عام يعمل على صقل تلك الموهبة وازدهارها وإلا أنها ستظل كامنة إلى الأبد. هذا المناخ والجو الذي توضع فيه هذه الجوهرة قد تنتج لنا كاتباً مسرحياً عظيماً مثل يوجين أونيل أو من طراز تينسى وليامز.