كان شكسبير من أبرز القيادات الفكرية التي أسهمت في تحريك الجمود وفتْح الأذهان وخلخلة التصورات المتحجرة وتوجيه تفكير الإنسان نحو ذاته ليعيد خلق أفكاره وتصوراته إنه رائدٌ فَذٌّ صنع ذاته بذاته وقد كانت الاستجابة له مدوية وعارمة ومازالت أصداء هذه الاستجابة تنمو وتتسع وتتنوع فهو الإنسان العالمي بامتياز لكي ندرك طبيعة الحضارة المعاصرة ومقوماتها ونستطيع التفاعل معها والمشاركة فيها فإن علينا أن نَتَعَرَّف على المنابع القصوى التي نبعت منها لذلك فإنه لا بد من التأكيد بأن كل التغيرات النوعية التي تميزت بها هذه الحضارة تعود إلى ذلك الإشعاع الباهر الذي اكتمل إشراقه في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد حيث حَصَل تغيُّر نوعي في مصادر المعرفة وأدواتها وكيفية إنتاجها ووسائل التحقق منها كما حصل تغيُّر نوعي في رؤية الإنسان لنفسه وللأخلاق وللسلطة وللعالم فالمعرفة مغامرة واكتشاف وخَلْق وحذف وتصحيح وليست تذكُّرًا وامتثالاً وبذلك تغيَّر الاتجاه والإمكانات والمصدر والأداة والمضمون والقابلية وأصبحت الآفاق كلها مفتوحة للعقل الإنساني بدلاً من الدوائر الثقافية المغلقة إنه تحوُّلٌ نوعي في اتجاه ومسار وإمكانات وآفاق الحضارة الإنسانية وقد انتقل ذلك التحول النوعي العظيم إلى أوربا بواسطة الرومان ثم جرى حجبه بسلطة الكنيسة خلال العصور الوسطى ثم تحقَّق كشف الغطاء عنه في عصر النهضة. إن عصر النهضة الذي حصل في إيطاليا كان ولادة جديدة للإبداع اليوناني تمثَّل في تلك الريادات الخارقة.. دانتي وبترارك ودافنشي ومكيافيلي ومايكل أنجلو ورافائيل وبيليني وغيرهم من الرواد الباهرين لكن البيئة الإيطالية الكاثوليكية لم تكن آنذاك متهيئة تهيُّؤاً كافيًا لقبول تلك الولادة المشعة فجاءت الاستجابة محدودة غير كافية فانتقل الإشعاع إلى وسط القارة وشمالها فكانت هولندا هي الأكثر انفتاحًا والأسرع استجابة لرواد التنوير فصارت ملجأ الأحرار من رجال الفلسفة والفكر لكنها لم تكن قادرة على الاضطلاع بدور قيادي في القارة الأوربية فاضطلعت بهذا الدور تلك الجزيرة العجيبة. لقد كانت الثقافة الانجلوسكسون هي الثقافة الأقدر على تمثُّل الحضارة اليونانية التي أعاد الرواد الإيطاليون إحياءها وانتقلت منهم إلى هولندا ثم إلى انجلترا فأطلقت هذه الجزيرة العجيبة إشعاعها على العالم كله حتى صارت هي الثقافة التي يصاحبها الازدهار أينما حلَّتْ فبعد أحداث مفْصليَّة مُمَهِّدة للانفتاح صار عصر الملكة اليزابث هو العصر الأكثر إشعاعًا وسط ظلمات العالم آنذاك ففي ذلك العصر ظَهَرَ فرانسيس بيكون وشكسبير وغيرهما من الأفذاذ الذين مازال العالم يتحدث عن ريادتهم الباهرة وعن تأثيرهم العميق الواسع وعلينا أن نتذكر دائما أن أهمية الريادة وفاعليتها مشروطة بما يتحقق لها من استجابة عامة إيجابية كافية ولأن انجلترا كانت متهيئة ثقافيًّا للاستجابة الإيجابية الكافية فإن ذلك التكامل بين الريادة الفردية الخارقة والاستجابة الاجتماعية الإيجابية الكافية قد فَتَحَ آفاق التطور الحضاري الحديث فامتد التأثير الإيجابي إلى العالم كله. وكان شكسبير من أبرز القيادات الفكرية التي أسهمت في تحريك الجمود وفتْح الأذهان وخلخلة التصورات المتحجرة وتوجيه تفكير الإنسان نحو ذاته ليعيد خلق أفكاره وتصوراته إنه رائدٌ فَذٌّ صنع ذاته بذاته وقد كانت الاستجابة له مدوية وعارمة ومازالت أصداء هذه الاستجابة تنمو وتتسع وتتنوع فهو الإنسان العالمي بامتياز لقد وُلد في نفس السنة التي وُلد فيها جاليليو وهما من أعظم الرواد على امتداد العصور وكلٌّ منهما كان مؤسِّسًا ورائدًا في مجاله أحدهما في مجال العلم والثاني في مجال الأدب والفكر والمسرح فقد وضَع الإنسان بأوهامه وانغلاقه وانتفاشه وحروبه وسياساته موضع الفكاهة والسخرية لكي يفيق من كابوس التناسل الثقافي الذي يسلبه فرديته ويبقيه إمَّعة يردد ماتبرمج به وقد بلغ الإعجاب بشكسبير أنْ قال الناقد المبدع إليوت: "إن دانتي وشكسبير قد اقتسما العالم بينهما ولا ثالث لهما" وكما يعرف المهتمون فإن إليوت من أبرز أعلام الأدب المعاصر إبداعًا ونقدًا ومكانة. وبلغ إعجاب الفيلسوف الألماني جوته بشكسبير أنه كتب عن مسرحيته هاملت يقول: "ليست قصة هاملت مجرد أشعار وإنما هي شيء أخطر من ذلك.. شيء يشبه كتاب المصير وقد عصفَتْ بأوراقه الرياح" وكما يقول الدكتور عبد الفتاح الديدي في كتابه (الخيال الحركي في الأدب والنقد): "لقد استحال اسم هاملت إلى فكرة من الأفكار وصار يرمز لأشياء لها خطرها في أبواب الأدب والفلسفة وعلوم النفس جميعا ففي كل علم وفي كل فن وفي كل لون من ألوان الثقافة تقع على اسمه وتعرض لهذه الصورة الجياشة التي رسمها الناس في مخيلاتهم لشخص مصنوع بيد إنسان" إن شكسبير قد أدرك حماقات الإنسان وتفاهاته وفظاعات نقائصه كما أبصر فراغ انتفاشه واكتشف قابليته للجمود واستعداده التلقائي لتشرُّب البلاده فاستخدم التهكم والسخرية ونجح في تجسيد أنماط السلوك اللاعقلاني فأسهم في الإيقاظ والتنوير ليس على مستوى الثقافة الإنجليزية وإنما على المستوى العالمي وليس في عصره فقط وإنما في كل العصور التالية ومازالت أفكاره تؤتي أينع الثمار. إن ول ديورانت وهو العليم بالفلسفة والفن والحضارة يَعْتَبر شكسبير فيلسوفًا أعمق من بيكون فيقول: "إذا فسَّرنا الفلسفة على أنها رسمٌ متطورٌ لأحوال الإنسان أو نظرةٌ تعميمية لا للكون والعقل وحدهما بل للأخلاق والسياسة والتاريخ لكان شكسبير فيلسوفًا أعمق من بيكون فليس الشكل هو الذي يصنع الفلسفة" لقد اعتاد البعض في العالم العربي على اعتبار الفلاسفة فقط هم قادة التنوير كما اعتادوا بأن ينظروا للمسرح بأنه للتسلية أما الحقيقة فهي أن المبدعين في مجال المسرح والمجال الروائي لهم تأثير عظيم على الشعوب المتفتحة حيث يتم تقريب وتجسيد الأفكار العظيمة فتصير مفهومة لعامة الناس وكذلك الفن الروائي فروايات نجيب محفوظ مثلاً زاخرة بنقد الأوضاع والتقاليد وتعرية الجهالات والأوهام فلو ظَهَرَتْ إبداعات محفوظ في مجتمع منفتح لكان تأثيره عظيمًا. إن ذلك المبدع الخارق شكسبير الذي بَهَرَ العالم ومازال يبهره لم يتلق سوى تعليم بسيط أتاح له أن يواصل تعليم نفسه بل لقد تعلَّم من الحياة ومن ملاحظة سلوك الناس وتجارب الآخرين أكثر مما تعلَّم من الكتب وقد صَفَه درايدن بأنه (معجزة) وأكَّد أنه: "أعظم نفس وأوسعها إدراكا وأنه كان دومًا عظيما إذا عرضتْ له مناسبة عظيمة" لقد أدرك عَظَمَةَ قابلياته فصمَّم بأن يبلغ ذروة المجد فبلغها بجهده ومواهبه وحماسه وطاقته المتوقدة كان جيشانُ قابلياته يدفعه للإقدام بكل حماس وجرأة وثقة فرضي بأن يبدأ من القاع وأن يتقبل العمل الوضيع من أجل البقاء قريبًا من سُلَّم الصعود فلم يخب ظنه بنفسه فأقْدم وأمعن في الإقدام فصنع لنفسه هذه المكانة الأسطورية ثم صارت مكانته تعلو بمضي الزمن فكلما امتد الزمن تضاعف الإعجاب به وظهرت وجوهٌ جديدة لإبداعه وقد وصفه الأديب المعاصر له بن جونسون بأنه: "كان حر الطبيعة طليقها وكان خياله ممتازًا وأفكاره جريئة وتعبيراته تفيض في يُسْر حتى ليلزم أحيانًا أن يوقفه أحدٌ وكان ذكاؤه طوع إرادته" إن هذا التدفق التلقائي يدل على اكتظاظ الذات وأن إبداعه فيضانٌ تلقائي من ذاته المكتظة. يتساءل ول ديورانت في كتابه (قصة الحضارة) بانبهار: "كيف تسنَّى لامرئ لم يتلق من العلم إلا أقله أن يخرج على الناس بروايات (مسرحيات) تعددت وتنوعت فيها ألوان المعرفة المكتسبة بالاطلاع والدرس؟!" ومما هو موثَّقٌ في سيرة حياته أنه جاء إلى لندن من الريف وأنه عومل في البداية: "في المسرح كخادم في مرتبة وضيعة جدا" لكنه كان يتأجج ثقةً وطموحًا وموهبة وكان لا يرضى لنفسه إلا بأن يثب من القاع إلى القمة وقد تحققت له طموحاته وأحلامه بأشد التجليات إبهارًا لكن ذلك لم يأته منحة وإنما حققه بالجهد الخارق والقلب النابض والذكاء المتوقد والثقة الحافزة وكما قال ول ديورانت: "إنه لمن الدروس المفيدة أن نعلم أن شكسبير صعد سلَّم المجد بالعمل الشاق والجهد المضني ولكن الصعود كان سريعًا" لذلك قوبل شكسبير بغيرة وعداوة ونقمة بعض الكتاب المعاصرين له حتى وصَفَه روبرت جرين بأنه: "غرابٌ مُحْدَثٌ يتجمَّل بريشنا" لقد نهشتهم الغيرة فراحوا يتواصون بإسقاطه لكنه أثبت مكانته بمقدرة خارقة حتى قال عنه الناقد البريطاني المعاصر البروفيسور هاريسون: "ليس في العالم الناطق بالانجليزية بيتٌ إلا ويحوي نسخة من أعمال وليم شكسبير". وقد لا ننتبه لأهمية الدور العظيم الذي أداه شكسبير لأننا في ثقافتنا لا ندرك أهمية المسرح في تثقيف الناس وتغيير الاتجاهات وتصحيح التصورات أما في المجتمعات المزدهرة فإنهم يدركون قيمته العظيمة وتأثيره الهائل وكما يقول الناقد عصام محفوظ في كتابه (مسرح القرن العشرين): "يتميز الفن المسرحي منذ نشأته بأنه أكبر الفنون تفاعلاً مع جمهوره: يختلف عن الرواية بأن حضوره لا يتم فرديًّا وعن الموسيقى بأنه ليس تجريديًّا وعن الشعر بأنه ليس ذاتيًّا إنه الفن الجماهيري بتميُّز ويختلف عن السينما بأن احتكاكه بجمهوره لا يتم عبر الصورة بل هو احتكاكٌ إنسانيٌّ مباشر.. والمسرح أكثر الفنون تأثُّرًا بالحرية". إن شكسبير قد انبهر به معاصروه مثلما انبهر به الدارسون والباحثون والنقاد في كل العصور التالية فالناقد الشهير جونسون كتب عنه يقول: "ليس فريدًا في عصر بعينه بل إنه فريدٌ في كل العصور" كما وصَفَه جونسون بأنه يشبه الصنم: "يحبه الإنسان حُبًّا أعمى" ووَصَفَه آخر بأنه: "يفيض رقة ويتقد حرارة.. يُفرغ ذكاءه وتفكيره في نكتة" ويقول عنه الناقد المعاصر بيتر بروك في كتابه (أربعون عامًا في استكشاف المسرح): "وجاذبية شكسبير على اتساع العالم كله إنما تكمن أساسًا في القوة الدرامية الهائلة لمسرحياته". وربما كان تحرُّر شكسبير من القولبة التعليمية قد أسهم إسهامًا كبيرًا في هذا التفرد الإبداعي المذهل فلو أنه تمت صياغته في قوالب التعليم لربما انطفأت فيه هذه القابليات الإبداعية الفريدة الباهرة يقول ول ديوارانت في قصة الحضارة: "إن شكسبير هو أعظم الكتاب في كل الأزمان.. أصالةً وامتيازً وخَلْقًا وإبداعًا.. وتكمن الأصالة في اللغة والأسلوب والخيال والفن المسرحي والدعابة وأشخاص الرواية والفلسفة.. فلغته أغنى اللغات في كل الآداب.. نقَّب في مختلف أركان اللغة وجوانبها وأحبَّ الألفاظ عامة فانسابت منه في حيوية دافقة مرحة..". وهذه الظاهرة الأسلوبية الفريدة هي أحد الشواهد على الفرق النوعي بين المعرفة النظرية والأداء العملي فعالم اللغة قد يكون عييًّا إذا تَحَدَّث وقد يكون ركيكا إذا كتَبَ إن الكلمات مواد للتحدث والكتابة ولكن ما أندر القادرين على البناء الجميل فالأساليب فنونٌ وخصائص فردية وليست معلومات يمكن حفظها وترديدها ولكن هذه الحقيقة الأساسية تغيب غيابًا يكاد يكون تامًّا وهو غيابٌ نتجت عنه أفدح الأضرار وتظهر هذه الأضرار في الخلط بين المعلومات و الأداء فتُنتظَر المهارة ممن لا يملكها وتُسنَد المهام لمن لا يُحسن الأداء فالمعلومات في أي مجال لا تدل على مقدرة عملية لأنه يوجد فرقٌ نوعي بين المعرفة النظرية والأداء العملي لذلك فإن اللغات قد تطورت بواسطة المبدعين من الشعراء والكُتَّاب وليس بواسطة علماء اللغة الذين يركزون اهتمامهم في تقعيد السائد والمحافظة عليه أما الكُتَّاب والشعراء فإنهم يفجرون اللغة ويعيدون خلقها باستخدامات جديدة وأساليب مبتكرة ويُسهم معهم في ذلك فلاسفة اللغة. إن إبداعات شكسبير ذات تنوع هائل لأنه يملك رؤية مفتوحة خارقة وغير مقولبة: عميقة ودقيقة وشاملة ونافذة فلم تتقولب قابلياته بقوالب تعليمية وإنما انطلق حُرَّ العقل مفتوح القابليات متوقد الرغبة شامخ الطموح متوطد الثقة وكما يرى ول ديورانت فإنه لو تقولب بالتفكر التعليمي لصار كائنًا مختلفًا ولبقي مجهولاً ثم يقول ديورانت: "إنه ليخلق في كل رواية عالمًا.. ولا يقنع بهذا فيملأ الامبراطوريات والغابات والمروج المتخيلة بسحر صبياني.. إن خياله ليجعل أسلوبه الذي يفكر بالصور يُحَوِّل كل الأفكار إلى صور وكل التجريدات إلى أشياء محسوسة أو مرئية... لا عجب أن روحًا قوية بكل معني الكلمة لا بد أنه تكون قد انفعلت انفعالاً شديدًا بالقبح والكآبة والجشع والقسوة والشهوة والألم والحزن مما بدا في بعض الأحيان أنه يشيع في النظرة الشاملة إلى العالم". إن توغُّل شكسبير في أعماق ودهاليز النفس الإنسانية وإن فهمه العميق للطبيعة البشرية لهو أشد الظواهر إدهاشًا لقد استفاد منه علماء النفس والمحللون النفسيون ومازال الدارسون والباحثون يستعينون بشخوصة ونماذج التصرفات التي تتنوع في مسرحياته إن شكسبير هو المبشِّر بالإنسان الحديث. يقول جبرا ابراهيم جبرا في كتابه (أقنعة الحقيقة): "مئات الشخصيات خلقها شكسبير صوَّر فيها النبل والسمو والتضحية كما صوَّر فيها النذالة والشر والخيانة". لقد لاحظ شكسبير سلوك الناس سواء بمعايشته لشتى النماذج أو بما قرأه من نماذج تاريخية فجاء فهمه للطبيعة البشرية فهمًا عميقًا مدهشًا وقد استخدم مواهبه ومهاراته وقدراته لتجسيد ما يمور في النفوس فصارت الشخصيات التي ابتكرها مصدرًا لا ينضب لعلماء النفس وللنقاد والدارسين. لقد كانت الشخوص الشكسبيرية ملهمة لما لا يحصى من الأعمال الدرامية التي تعرض طبائع الناس بمشاهد ساخرة كاشفة لقد كان منهلاً إبداعيًّا زاخرًا لا ينضب وسيظل الفن يستمد منه أعمالاً إبداعية متجددة ومتنوعة مدهشة ويكفي أن نشير إلى أن مسرحية واحدة له هي (لغطٌ كثير حول لاشيء) كانت مصدرًا لمئة وخمسين فيلمًا مع أنها من أقل مسرحياته أهمية أما مسرحية (هاملت) فلا يمكن حصر الأعمال الإبداعية التي استقتْ منها إن الشخصيات التي ابتكرها شكسبير مثل هاملت وعطيل وماكبث ولير وفالستاف وغيرها هي أكثر شهرة من أعلام التاريخ الحقيقيين وهذا معيارٌ واضحٌ على شدة تأثيره على الثقافات العالمية. إن الاهتمام بشكسبير ليس محصورًا بمجال معرفي محدَّد وإنما يجد عنده كلُّ الدارسين في مختلف المجالات ما يمدهم بكواشف تعينهم في مجالاتهم المختلفة يقول الدكتور نديم البيطار في كتابه (المثقفون والثورة): "هاملت يمثل كأكثر أبطال شكسبير فرديةً وتعقيدًا وتفكيرًا وشكوكية.. الوعي الذاتي الكامل في النهضة.. إنه إنسان مونتاني ولكنه أكثر عاطفية" إن إنسان مونتاني هو ذلك الإنسان الذي آفاق من أوهام الامتياز وراح يعيد النظر في محتويات ذهنه ويفحص المعايير السائدة في مجتمعه فيعيد تكوين ذاته ويصنع بنفسه أفكاره واهتماماته ورؤاه إنه الإنسان الذي بشَّر به الفيلسوف الفرنسي ميشيل مونتاني فأشاع انبثاق الوعي الفردي وأسَّس منهج الشك وأيقظ العقول إلى الانفتاح والمراجعة فهو أسبق بذلك من ديكارت. يؤكد سمير عطا الله بأن أكثرية النقاد يعتقدون بأن المنهل الأول للمبدعين كان شكسبير ثم يقول: "يقال إن كبار الروائيين بنوا أشخاصهم على شيء من أبطاله ويقال إن سيد الرواية الأول دوستويفسكي استعار أشخاص أبطاله وطباعهم من شاعر الانجليز" ويقول عنه في مقال آخر: "ما من أحد في تاريخ الآداب حُظي بما حُظي به من دراسات.. مجلة شكسبير الفصْلية تنشر كل عدد عناوين نحو أربعة آلاف مرجع عنه وفي المكتبة الوطنية البريطانية أكثر من ثلاثة عشر ألفًا". في استطلاع للرأي العام البريطاني عام 2013 عن عظمائهم خلال التاريخ كله حصل شكسبير على المركز الأول متجاوزًا بذلك العلماء والفلاسفة وقادة الحرب وزعماء السياسة ورجال الأدب.. وتتكرر مثل هذه الاستطلاعات فيأتي شكسبير دائمًا في المركز الأول. وتشير الدراسات المسحية الإحصائية بأن اسم شكسبير هو الأكثر ترددًا في الكتابات على مستوى العالم حيث يسبق اينشتاين وتشومسكي وديكارت وكانط وغيرهم من مشاهير العلم والفلسفة والأدب والفن والسياسة. والطريف أن الأكاديمي في جامعة لندن الدكتور كمال أبو ديب يحاول بإلحاح بائس إثبات عروبة شكسبير وأن اسمه الحقيقي هو (الشيخ زبير) وغاب عنه أن كونه عربيًّا لا يعطينا الحق في الفخر به فقد ظَهَرَ في تاريخنا روادٌّ عظماء لم نستفد منهم فقد عاشوا خارج النسق الثقافي العربي وماتوا ربما كمدًا وغمًّا من إقصائهم وبقائهم منبوذين وبقينا حتى الآن نقدح بهم ونُحذِّر من أفكارهم فالإبداع دائما فرديٌّ وليس جماعيًّا وإبداع الفرد لا يكون فخرًا لأمته إلا إذا استجابت له استجابةً إيجابيةً كافية فتجسَّد إبداعه فيها فكرًا وسلوكا وأوضاعًا. إن الذين انتجوا أفكار التنوير وحققوا كشوفًا علمية خارقة وأسهموا في التقدم الإنساني في كل العالم وعلى امتداد التاريخ هم عددٌ محدودٌ للغاية إنهم نتاج أنفسهم وليسوا صياغة مجتمعاتهم إنهم حتى في المجتمعات المزدهرة أقل من طلاب فصل واحد في إحدى المدارس إنهم يأتون بأفكار مغايرة للسائد ومتجاوزة أو معارضة لما هو مستقر في مؤسسات التعليم إنهم يغردون خارج السِّرب وهم يَظهرون في كل المجتمعات فالتفاوت بين المجتمعات سببه الاختلاف في الاستجابة فلم تتخلف المجتمعات المتخلفة لافتقارها إلى الرواد والمبدعين وإنما تتخلف لأنها لاتستجيب لروادها ولا تستفيد من مبدعيها.