إن التصوير الصوري هو ما يشكله الإحساس الذي ينزلق إلى عمق الوجدان، وهو ما يعرف بالتسرب الانفعالي الذي يدفقه الحس العام بالعالم المحيط، والذي يتطلب غفوة لحظية عن مكبلات الوعي المتحكم في دفقات القلم.. يقول الإسباني (خاثينتو بينابينتي 1866 - 1954) والحاصل على جائزة نوبل في المسرح: "لقد أحببت المسرح من أجل المسرح نفسه، ولم أذهب إليه أبغي المال ولا التصفيق بل التسلية والتجول بين جنباته". فالمسرح عشق وعشيق. لا يحب البيع والشراء، ولا يأبه بالمال ولا ينظر إلى شباك التذاكر، فإن عرضته في سوق النخاسة، أصبح عبداً لمن دفعوا الثمن! فلا يلتقي المسرح والتجارة والمال على الإطلاق!. لننظر إلى كتاب المسرح العظام، لقد كانوا للفقر أقرب منه إلى الغنى، ولم يكتبوا لكي يصبحوا أغنياء أو يشتهروا أو يتاجروا بأقلامهم وبآرائهم، ويجمعوا المال. وإنما كتبوا لكي يفرغوا ما بجعبتهم من ألم ويصنعوا عالماً زاخراً من الخيال، وتلك هي مبتغى طموحاتهم لأنهم يحصلون على اللذة والمتعة من العيش والتعايش مع هذا العالم المفترض، في غرفهم وفي خلوتهم، فيحصلون عن التعويض عن ألمهم وما افتقدوه. حينها المسرح يعشق من عشقه، ويدرك بحذق عميق من يدلِّس عليه ومن يتملقه!. ولذلك، اكتب للمسرح لأنك تحبه، لأنك تكرع من كأس لذته وأنت تخرج من رأسه كل يوم وليداً جديداً، يملأ المنزل عليك بهجة ولذة. ثم يملأ الدنيا حباً وألماً، حينها سيعطيك كل ما لم تسأل نفسك عنه وأنت تبادره وداً بود، وحباً بحب وعشقاً بعشق. سيمنحك ما لا تمنحك إياه أي حرفة أخرى "المجد والخلود" وربما المال. فهذا هو شكسبير عشق المسرح، وهو عامل إسطبل للخيل - كما يقال - حينما يدخل النظارة إلى قاعة العرض، جاور المسرح فأحبه حتى عشقه، فأعطاه المسرح المجد والخلود، والمال أيضاً حتى ملأت قصوره أرجاء بريطانيا!. وها هو (فريدريش دورينمات 1921 - 1990 (كتب المسرح وهو لا يعتقد أن كتابته لن تتعدى نافذة منزله وكان راضياً قانعاً بهذا؛ فامتلأت دور النشر العالمية بمؤلفاته حتى يومنا هذا، حتى إن الدولة منحته قصراً كبيراً وخدماً لكي يتفرغ للكتابة المسرحية آنذاك؛ واليوم تتنازع النمسا وألمانيا على جنسيته! فما هو السر وراء كأس الخلود هذا (المسرح)؟! وما الذي ذلل صهوة هذا المهر الجامح لهؤلاء العباقرة؟ هل هي العبقرية والموهبة؟ أم هي الحرفية والصنعة؟ أم الاثنتان معاً؟ إن التصوير الصوري هو ما يشكله الإحساس الذي ينزلق إلى عمق الوجدان، وهو ما يعرف بالتسرب الانفعالي الذي يدفقه الحس العام بالعالم المحيط، والذي يتطلب غفوة لحظية عن مكبلات الوعي المتحكم في دفقات القلم وهنا يقول روزبيفلد: (إن الشعراء قد يولدون أو يصنعون تبعاً للميدان الذي يشغلونه، أما الكتاب المسرحيون فلابد أن يولدوا ثم يصنعوا) وهذا قول يجعلنا في متاهة بين الحرفية والصنعة والموهبة! إذ إنها تبرز قيمة الموهبة في الكاتب المسرحي على وجه الخصوص حيث إن الشاعر يمكن أن يصنع بالتعليم والتمرين والممارسة، أما الكاتب المسرحي فلابد أن يولد وتحت لسانه تلك الجوهرة. فالكتابة لحظة الإبداع ما هي إلا طاقة روحية متدفقة، هذه الطاقة تمنح لهذا الكاتب وتحرم منها ذاك، فهذه الطاقة لا تستجلب، فالموهبة لابد أن توجد لدى الكاتب قبل أن يشرع في عملية كتابة المسرحية يقول "سومرست موم" عن الكاتب المسرحي: (لابد أن يولد وفيه هذه البذرة.. هذه الجرثومة.. هذه الموهبة) هذه الجرثومة التي وصفها موم - على حد تعبيره - تعني الموهبة والتي أسماها أفلاطون بالإلهام، أما علماء القرن العشرين فلهم رأي آخر حيث أنزلوا العملية الإبداعية من السماء إلى الأرض إلى أغوار النفس البشرية، فيقول "جورج برنارد شو" - ذلك الكاتب المسرحي العظيم -: (إن الطبيعة - يقصد دواخل النفس - تقوم ولابد بتسعة وتسعين من المئة من عملية الكتابة المسرحية). ثم يقول أحد رجال المدارس المعاصرة :(إن الإنسان إنما يرغب في الاضطلاع بهذا العمل المرهق الشاق، المضني للذهن والجسم والذي تجشمه إياه الكتابة المسرحية، لأنه إنما ولد كاتباً مسرحياً). وإذا ما سلمنا بذلك فإنه يجب أن يوضع مالك الجوهرة في جو مناسب ومناخ عام يعمل على صقل تلك الموهبة وازدهارها، وإلا ستظل كامنة إلى الأبد. هذا المناخ والجو الذي توضع فيه هذه الجوهرة قد تنتج لنا كاتباً مسرحياً عظيماً مثل يوجين أونيل أو من طراز تينيسي وليامز.