"حارس السفينة" هي النص الروائيّ الثاني للكاتب عبدالله ناجي، وكان قبل ذلك قد أصدر روايته الأولى "منبوذ الجبل. ظاهريًا تبدو الروايتان من أبسط النصوص الروائية في السرد إذ تتميّزان بسيولةٍ سرديّةٍ تُحقّق أفقًا مُتفرّدًا على مستوى التكامل بين عناصر السرد والدلالة، لكنّنا، ما إن نتجاوز فكرة السرد ونبحثُ في العمق حتى نكتشفَ أنّ الأمر يتعلّق بمفهومٍ أعمق، نابعٌ من قصديّةٍ أخرى وهي قصديّة الإيحاء والرمز ولذلك اتّخذت الروايتان صورةً مُستعارةً لتمزّق الذات وتناثر الحياة وتلاشي صورتها بحيث أصبح من الاستحالة تجميع شتاتها إلّا من خلال رحلةٍ جوهريّةٍ تتمثّلُ في البحث عن الذات للإمساك بالحياة الحقيقيّة المؤدّية إلى الخلاص وإدراك وحدة الوجود. إنّ "منبوذ الجبل" و "حارس السفينة" في هذا السياق، روايتان تدفعان القارئ إلى محاولة الغوص عميقًا بعيدًا عن السرد المُعلن ظاهريًا وهذه المحاولة هي دعوةٌ للإحساس بالوجود، بوجود الذات لاستعادة الكيان المفقود من أجل إعادة ابتكار الحياة. هذا الابتكار تجلّى في الروايتين من خلال "أحمد" و"محمود" بانشطار روح كلّ منهما، يطلبان الخلاص فلا يجدانه وعلى الرغم من المشاقّ والآمال المُحطّمة والزفرات ومختلف أنواع الصراعات، فإنّ هذه المعاناة كانت ضروريةً لهما للتحوّل من روحٍ متألّمةٍ إلى كائنٍ وجوديّ يتّصلُ اتّصالًا مُباشرًا بكلّ ما كان وما هو كائن وما سيكون. وبالنظر إلى "أحمد" و"محمود" نجدُ أنّهما مثّلا سلوك التوّاقين إلى الخلاص، كلاهما أدركَ أنّه "ليس في الخارج سوى الصور، الحياة كلّها في الداخل" وأنّ العزلة ملاذ كلّما ضاقت عليهما سبل الحياة. هذه العزلة "تهبُ ملكاتٍ لا تهبها الحياة الصاخبة، وتجعلُ للروح قدرةً على النفوذ إلى الأشياء". من البديهيّ الإشارة إلى رمزيّة "الشعر" في "منبوذ الجبل" وإلى "الماء" في "حارس السفينة". من خلال رمزية كلّ من الشعر والماء، تتجلّى لنا فلسفة الكاتب عبدالله ناجي وهي فلسفةٌ روحيّةٌ ومثاليّة، في بداياتها وفي خواتيمها وتجعلُ الهمّ الروحيّ المُتمثّل بالخلاص أساس حياة الإنسان وغايته النهائية. هذه الفلسفة لا تتضّحُ إلّا بالربط بين العالمين الروحيّ المتمثّل بماهية الشعر وكينونته والماديّ المتمثّل بالماء، أصل الأشياء. هذا الربط بين العالمين يتأكّدُ بدليل أنّ الإنسان وإن كان يتوقُ إلى العالم الروحيّ فإنّه مُلزَمٌ أن يعيش في عالم المادة ولعلّ الشعر وبمفهومه الأكبر "التجلّي" هو المظهر الداخليّ وهو الأساس والمُنطلق في توجهات الإنسان الساعي إلى الانعتاق والتحرّر من أثقال هذا العالم لعلّه يرتقي بذاته ويتجلّى خفيفًا كالماء، لغةٌ أخرى كالشعر، لها كينونتها وجوهرٌ يُشرّعُ بسيولته وغزارة تدفّقه إمكانات الروح في فضاءٍ لا متناهٍ ولعلّ الكاتب عبدالله ناجي يُدركُ بوضوحٍ هذه الرمزية إذ لا مفرّ من العودة للأصل ليستعيد الإنسان اكتشاف العلاقات بينه وبين الكون التي تمّ نسيانها وهذه العودة ليست سوى سبيل للتجاوز، حيثُ تتخطّى الذات الإنسانية كونها مجرد أداة تعبيرٍ عن تجربة الإنسان لتُصبحَ المضمون الخاص لهذه التجربة، بل ماهية الإنسان وكينونة وجوده عمومًا. ميساء هاشم