وقال الملك: «أيها الرؤوساء والشيوخ الفياشيون كلمة عفو الخاطر فاسمعوا وعوا..... لقد طعمتم جميعًا وستفترقون إلى مضاجعكم، ثم نجتمع عند مطلع الفجر، ونحن ومن لم يحضر من نواب الأمة الأجلاء فننظر في شأن هذا اللاجئ الغريب... إنه يطلب أن يعود في حمايتنا إلى وطنه، كما يصل سالمًا غانمًا من غير أن يمسه أذى... ... أخذت الملكة تتحدث إلى أوديسيوس وقد لفت نظرها هذا الثوب الفضفاض الذي كان يلتفع به «والآن جاءت نوبتي في التحدث إليك أيها الغريب الكريم، فمن أنت؟ ومن أين أقبلت؟ وأنى لك هذا الصدار وذلك الدثار؟ ألست قد قلت إنك غريب نازح أفلتتك المنايا في لجج البحر؟» وقال أوديسيوس يجيب الملكة أريتل: «أيتها الملكة! قد لا أفرغ من الحديث إذا حاولت أن أسرد قصتي بحذافيرها! (80) بل إنني ألم بمأساتي المحزنة في كلمات فأقول: «في أوگيگيا - إحدى الجزائر القاصية التي لم تطأها قدم بشر... تقيم عروس الماء المفتان -كليبسو- البارعة الجمال الرائعة الصناع، ابنة أطلس الجبار التي قدر علي أن أكون أول لاجئ إلى جزيرتها، بعد أن سلط جوف صواعقه على سفينتي فشطرها وأغرق كل رجالي، وظللت أنا متشبثًا بالسارية ليالي وأيامًا حتى دفعتني المقادير في الليلة العاشرة إلى ساحل الجزيرة، حيث آوتني كليبسو الجميلة الريانة، وأنقذتني من موتة أكيدة، وأطعمتني وأكرمت مثواي - ثم عرضت أن تهبني الحياة الخالدة والشباب الأبدي، لولا أنني تأبيت.. ثم أقمت عندها سبع سنوات لم يرق طوالها دمعي الذي نضحت به أثوابي، وما خلعت علي من دثار... وفي الثامنة أرسل إلي جوف من يأمرها بإطلاق سراحي، فأبحرت على رمث زودته بالأطايب والأذخار.....ثم أرسلت بين يدي ريحًا رخاء ما انفكت تجري بي في عباب من بعده عباب، طيلة سبعة عشر يومًا.. وفي الثامن عشر لاح قمم جبالكم الشم فخفق قلبي فرحًا....(ص 81) «ولم يعد بدًا من أن أكافح الماء.. وأذرع اليم بالسباحة حتى تظافرت الريح والموج، فقذفاني إلى ساحلكم ذي النوى... ولم أحتمل صدمة الصخور حتى نثرتني، فنضحني السيل الرابي إلى الأعماق كرة ثانية.. وشرعت أكافح مرة أخرى حتى نثرتني موجة مزبدة في نهر وديع متطامن فسبحت في إحدى عدوتيه، واستلقيت على الشاطئ خفق الأحشاء مرهون القوى.. وأقبل الليل فتهالكت على نفسي إلى دغيلة مهدتها بعساليج وشيء من القش وفروع الشجر، ونمت ليلاً طويلاً وضحوة وظهيرة كلها نصب وإعياء... ثم أيقظتني صيحات قريبة مرنة، فإذا ابنتكم الأميرة الحبيبة الحسان في ربرب من أترابها يتلاعبن كربات الأولمب على رمال الشاطئ.. وجثوت تحت قدميها، وما زلت بها أتملق شبابها الغض بدعوات معسولات، وأثير نخوة صباها الفينان حتى أمرت لي بطعام شهي... وأشارت إلى منعطف فتوجهت إليه فغسلت ما على جسمي من خبث، ثم منحتني هذا الصدار وذاك الدثار..... تلك قصتي أسردها من قلب محزون.....» (ص 82) رحلة أوديسيوس في أرض المردة جزيرة لوتوفاجي في هذه الجزيرة يقدم سكانها زهرة اللوتس وهي من نوع خاص (لأوديسيوس وبحارته)، وهذه الزهرة تجعل من يأكلها يفقد ذاكرته وينسى كل شيء، بل يتذكرون فقط أن هذه الجزيرة هي وطنهم. وقد أراد بعض رجاله ممن أكلوا منها البقاء مع أكلة اللوتس. لكن أوديسيوس أجبرهم على الذهاب معه. ويروي أوديسيوس حكايته قائلاً: «.... وفي صباح اليوم الثالث تطاحن البحر ونام هائجه، فبادرنا إلى الفلك وأقلعنا.... وما كدنا نلمح شطآنًا، حتى هبت زوبعة عنيفة تلاعبت بنا، وحملنا إلى جزيرة سيتيرا.. وطفقنا بعدها نذرع العباب تسعة أيام أخرى حتى بلغنا بلاد (لوتوفاجي) هذا الشعب الغريب الذي يقتات بالفاكهة فحسب، من دون ما تنبت الأرض وما يدب عليها... ورسونا ثمة، وهرع الملاحون إلى البر فاستراحوا وسمروا، ثم تخيرت اثنين من أوثق رجالي، وجعلت عليهما رئيسًا ووجهتهم إلى سكان هذه الأرض ليتعرفوا أحوالهم فاختلطوا بهم، وقابلهم اللوتوفاجي بالبشر والترحاب، ثم عرضوا عليهم من ثمر اللوتس العجيب الذي ينسي آكله ما سلف من حياته وينبت ما بينه وبين وطنه من وشيجة فما يفكر فيه، وإذا فكر فيه فما يؤثر أن يرتد إليه، بل يصبح كل معناه ان يأكل ويأكل ويأكل من هذا اللوتس العجيب، وأن يعيش أبد الدهر بين أولئك اللوتو فاجي السحراء! وتنظرت عودة رجالي - بيد أنهم لم يرجعوا، فاضطررت أن أذهب بنفسي إلى حيث سحروا، فحملتهم قسرًا إلى الشاطئ بين العويل والضجيج، وقذف كل منهم في قمرة مغلولاً مكبلاً مشدود الوثاق، ثم أمرت الملاحين فأبحروا على عجل قبل أن يأكل بعضهم من اللوتس الملعون فيضلوا ضلالهم وينسوا أوطانهم، ويظلوا في هذه الأرض جاثمين» (ص 97) الصراع مع الجني السيكلوب يقع أوديسيوس ورجاله أسرى لدى بوليفميوس ابن بوسيدون، وهو عملاق بعين واحدة يطلق عليه اسم سيكلوب. وقد تمكنوا من الهرب بعد أن فقؤوا عين سيكلوب، وهذه الحادثة أدت إلى زيادة غضب بوسيدون عليهم.. ويسرد القصة دريني على لسان أوديسيوس « «..... وفكرت ألف فكرة في وسيلة أنتقم بها من هذا المارد الوحش، وتوسلت بمينرفا أن تستطيع... وانفرجت أساريري فجأة، أشرق وجهي بنور الأمل.. ذلك أنني أبصرت بجذع زيتون مشذب أعده الجني ليكون عصا يهش بها على قطعانه، وقلت في نفسي: «لما لا يكون في هذا الجذع خلاصنا؟.. ثم أني أمرت أحد رجالي ببري أحد أطرافه، وكان الجذع طويلاً جدًا، يصلح سارية لسفينة كبيرة يعمل فيها عشرون بحارًا.. فأقبلوا عليه ينحتون ويبرون، وأكب أنا على نهاية الطرف أحدده. ...... ثم عاد الجني في موعده، فأدخل قطعانه وأرجع الحجر إلى مكانه وجلس يحلب الإناث ويقسم اللبن ويمخضه، ويرسل كل جذع إلى أمه ثم ينهض إلينا فبطش باثنين منا، وتعشى بهما، وقبل أن يستلقي على الأرض ليستريح (ص 102) ثم سأل أخرى فقال: «أيها الفتى ما اسمك؟ فقلت له في ظرف: «أيها السيكلوب لقد تساءلت عن اسمي، ألا فاعلم أنه أوتيس (لا أحد)، وبه أسمي من بلادي، ولكنك وعدتني أنك تثيبني على ما قدمت لك، فماذا عساك مانحي؟ فاستهزأ السيكلوب وقال: اطمئن يا صديقي سأهب لك أن تكون آخر من آكل من إخوانك... هذا هو جزاؤك، وتثاءب ثم انطرح وسط قطعانه يغط في نوم عميق....» (ص 103) «...... وقفزنا إلى جذع الزيتون فوضعنا طرفه المحدد المبري في الجمر المتأجج حتى تأجج مثله، وبكلمات قليلة أثرت النخوة في نفوس إخواني حتى لا تخذلهم قواهم،.... واستجمعنا كل ما فينا منة البأس، ووضعنا الطرف المشتعل في عين السيكلوب المقفلة، وحركنا الجذع، وطفقت أنا أقلبه فيها في مكان عل، كما يفعل السفان الصناع بمثقابه في خشب السنديان،... وانبجس الدم من عين السيكلوب العمياء، وجحظ إنسانها كأنه عين حمئة من دم وعلز... ولقد صرخ السيكلوب صرخة ردد أصداءها الكهف، ثم رددتها الغيران والجبال المجاورة». (ص 103) نهاية الأوديسة وتنتهي حكاية الأوديسة بتشويق ودهشة كما يلي: «وهتفت ابنة جوف العذراء بأوديسيوس تقول: «السلام عليكم أيها المحاربون! السلام السلام! قبل أن تجري دماؤكم أنهارًا!» ثم بدأت ميزفا في صورتها الإلهية المقدسة فارتعدت فرائص القوم وتخاذلوا فيما بينهم، حتى أصحاب أوديسيوس! لقد ارتجفت أعصابهم وعصف الذعر بسواعدهم، وكادت سيوفهم ورماحهم تنتثر على الأرض.. ولم يعبأ أوديسيوس، بل هجم كالنمر على القوم المنهزمين يود لو يصعقهم وطفق يبرق ويرعد، ويزأر بصوته المدوي العظيم، فغضب سيد الأول مب، وأرسل إحدى صواعقه نذيرًا من لدنه إلى ميزفا فجعلت إليه ذات العينين الزبرجيتين، وزجرته عن الناس وهي تقول: «لا يا أوديسيوس! لا يا ابن ليرتس النبيل، لا يجدر هذا بماضيك ضع حدًا لهذه المجزرة المروعة أو تجلب عليك غضب جوف العلي!». وخبت أوديسيوس، وسرت ميزفا، وعقد منطور الصلح بين الفريقين ودخل الناس في السلم كافة». (هوميروس، الأوديسيا، 2013، ص 237 ). تقنيات السرد في الأوديسة تميزت قصة الأوديسة أنها قصة حبكت بمهارة وتقنية روائية تدمج بين القصة والرواية الحقيقة من حياة الإغريق القديمة، وعناصر أحداث تأريخية مع قصص السحر والجن، وجزر خيالية، وأحداث خارقة للعادة، وأبطال يجمعون بين البشر، والآلهة، والسحر، وغريبي الأطوار. كما طورت الأوديسة وأبرزت دور الأبطال في الرواية، فنجد البطل الرئيس أوديسيوس (عوليس) وأبطال آخرين. أسلوب هوميروس في السرد هوميروس في الأوديسة لا يسرد الأحداث وفق تتابعها الزمني، بل يضغط فيها زمن السرد إلى حده الأدنى. فالمدة الزمنية لا تتجاوز أربعين يوماً. و ترى سيزا قاسم بأن رؤية هوميروس بالأوديسة تتميز بالرؤية الخارجية ذات الاتجاه الكلاسيكي. وتنطلق من الراوي (كلي العلم) وتعتبره الراوي المحيط علماً بالظاهر والباطن الذي يقدّم مادته دون إشارة إلى مصدر (معلوماته) ما دام راوياً كلي العلم، أي عليم بشكل مطلق بعالم روايته ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، يستطيع أن يسمع بما يدور بخلد شخصياته الروائية، فكأنه ينتقل في الزمان والمكان دون معاناة ويرفع أسقف المنازل، فيرى ما بداخلها وما في خارجها ويشق قلوب الشخصيات ويغوص فيها ويتعرف على أخفى الدوافع وأعمق الخلجات.. إلخ. وهو مع ذلك شخصية غير مشاركة في عالمها الروائي، لكنها وهي تحكي عن ذلك العالم شخصية يمكنها أن تتدخل في العمل الروائي بالتعاطف مثلاً مع إحدى الشخصيات أو بالانحياز أو بالتفسير أو بالتعليق أو باستشراف مستقبل شخصياتها مستعينة في كل ذلك بضمير الغائب ( لعايز أسماء 2016) ويرى كامل (2009) إن « أسلوب هوميروس في السرد متميز، واستخدم فيه عدة أساليب وتقنيات سردية متنوعة فهو يقف على الحياد وبمسافة واحدة من كل الشخصيات، فهو في سرد الأوديسة لا ينحاز إلى أوديسيوس أو إلى خطابي زوجته، بل يحاول الصدق الفني مهما أضاف من تفصيلات من عنده، بما يقتضيه الأسلوب الأدبي». (مجدي كامل 2009، ص 291 ) وتتمثل تقنيات السرد في الإلياذة على أسلوب السرد المتنوع، حيث يحول الكلام من الراوي الغائب إلى الرواي المتكلم، وخصوصًا مع الشخصيات الإيجابية، أما الشخصيات السلبية فإنه لا يستخدم معها هذا الأسلوب. كما استخدم أسلوب الفلاش باك حيث يبدأ بسرد أحداث الرحلة من وسطها، وهذا الأسلوب السردي انعكس على أسلوب كثير من الروائيين خصوصًا جيمس جويس في روايته عوليس. ويوضح كامل تميز سرد هوميروس بأنه يدخل «في تفاصيل الحياة اليومية ويعرضها بدقة وتشويق ودهشة، ويكاد أسلوبه في السرد يكون فريدًا في نوعه لم يجاره أحد من الكتاب الماضي والكتاب المعاصرين.» (المصدر نفسه) وقد تأثر بهذا الأسلوب عدد من الروائيين أبرزهم الروائي مكسيم غوركي في روايته «الأم» أو عند ايتماتوف في روايته «وداعا غوليساري» أو غابريل جارسيا ماركيز في روايته المشهورة «مائة عام من العزلة.. ويتميز سرد الأوديسة بالإدهاش والتشويق والحب والحنين إلى أسرته من خلال حنينه إلى ركوب البحار رغم المخاطر للقاء زوجته وابنه وبلدته إيثاكا. ويرى كامل بأن الصراع والحرب في حكاية الأوديسة يختلف عنه في الإلياذة، لأن الصراع في الأوديسة صراع يدور بين الإنسان والوحوش أو الكائنات البدائية، وليس صراع الإنسان مع الإنسان كما هو الحال في الإلياذة، وحدث حرب وصراع قليل بينه وبين خطاب زوجته. (ص 291) ويعرض كامل أمثلة صراعات أوديسيوس ورجاله «أثناء رحلته مع السيكلوب المتوحش آكل لحوم البشر، كما خاض معركة مع وحشين متمثلين في مضيق بالقرب من مسنارين صقلية وإيطاليا وهما سكيلا وخار بيديس. الأولى هربت مع عاشقها الذي تعشقه الساحرة سيرس التي تصنع رحيقًا عشبيًّا في المكان الذي تسبح فيه سكيلان فيذوب لحمها وتتغير هيئتها وتصبح وحشًا بستة رؤوس واثنتي عشرة ذراعًا، أما خاربيديس فتغرق مكانًا ير بالمياه من أجل والدها فيغضب منها زيوس ويحولها إلى مخلوق يعيش في قلب البحر يبتلع المياه بعنف وقوة ويتقيأها بعنف وقوة». (ص 291-292) الأوديسة حكاية رمزية مشوقة ومدهشة تمثل حكاية الأوديسة حكاية رمزية، فهي مثقلة بالرموز سواء في أسماء الشخصيات الإنسانية أو أسماء الكائنات المتعددة. ومن هنا جاء تميزها في التشويق والإدهاش. والرمز في الحكاية أو الملحمة يعتبر ضرورة ووسيلة. ** **