في وقت تتضاءل فيه فرص الحل الدبلوماسي لأزمة سد النهضة، القائمة بين مصر والسودان من جانب، وإثيوبيا من جانب آخر، فربما يصبح مع مرور الوقت التصادم بين هذه الأطراف أمراً حتمياً، وربما ذلك قد يفتح طريقاً للخيار العسكري بشكل تلقائي. ولا شك أن الملء الثاني للسد يعني تحكّم إثيوبيا في منسوب مياه النيل بشكل كامل، ولا حقوق لدولتي المصب اللتين لن تقبلا بهذا المنطق، باعتبار احتجاز حصتيهما من مياه النيل قضية وجودية. المجتمع الدولي يدفع جاهداً لمنع الخيار العسكري رغم تعنُّت أديس أبابا لهذا نستعرض في هذه الحلقة خيارات دولتي المصب السياسية والعسكرية كما نراها، خصوصاً مصر، تجاه قضية سد النهضة، لا سيما في حال استمرار إثيوبيا على تعنتها، وعدم التوصل لاتفاق قانوني ملزم للدول الثلاث، وذلك من خلال المحاور التالية: أولاً: المحور الديبلوماسي عند قراءتنا للتصريحات المصرية والسودانية بخصوص سد النهضة نلحظ اهتمامها وتأكيدها الكبير على الرغبة في إعطاء الحل الدبلوماسي الفرصة كاملة حتى النهاية، وذلك من خلال: : أ- مفاوضات الفرصة الأخيرة أكد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مرات عديدة على أهمية الحل السلمي مع إثيوبيا فيما يتعلق بقضية سد النهضة، واستبعد في 28 يوليو 2020م العمل العسكري لوقف ملء السد، وصرح علناً أنه عازم على حل سلمي: «لا تهددوا ولا تتحدثوا بلا مبالاة.. أنا أحترم كل رأي، لكن لا تقل إننا سنفعل كذا وكذا»، وجدد في وقتها التزام مصر بإيجاد حل تفاوضي. وعقدت مصر والسودان وإثيوبيا مفاوضات في أبريل 2021م، على مدار أيام في كينشاسا، والتي وُصفت ب «مفاوضات الفرصة الأخيرة»، وفشلت في تحقيق أي تقدم نحو حلّ الأزمة، وصرحت الخارجية المصرية أن إثيوبيا رفضت كافة المقترحات والبدائل الأخرى، التي طرحتها مصر وأيدها السودان، من أجل تطوير العملية التفاوضية لتمكين الدول والأطراف المشاركة في المفاوضات كمراقبين من الانخراط بنشاط في المباحثات، والمشاركة في تسيير المفاوضات وطرح حلول للقضايا الفنية والقانونية الخلافية. ولكن قبيل ساعات من إعلان فشل هذه المفاوضات، جاء خبر انتهاء التدريبات العسكرية الجوية المشتركة بين مصر والسودان، وتنسيق عسكري غير مسبوق، حمل رسائل عدة إلى إثيوبيا، خصوصاً بعدما لوح الرئيس المصري، وللمرة الأولى في 30 مارس 2021م، باستخدام القوة، وأن ذلك لا يزال قائماً، وأن قضية وصول مصر المستمر إلى مياه النيل دون عوائق هي مسألة حياة أو موت، وأكد أيضاً في 7 أبريل 2021م، أن جميع الخيارات مطروحة فيما يخص التعامل مع أزمة سد النهضة الإثيوبي، وأن الجميع لا يريد الوصول إلى مرحلة المساس بأمن مصر المائي. وفي هذا الإطار أيضاً أكد عبدالفتاح البرهان، رئيس المجلس السيادي السوداني، في 16 أبريل 2021م، أن الخرطوم تجهز قدارتها العسكرية، وتجهز لتلك الخطوة في أزمة سد النهضة. وتلت هذه التصريحات إجراء مصر والسودان ثلاثة تدريبات عسكرية مشتركة حملت أسماء: نسور النيل 1، ونسور النيل 2، وحماة النيل. وأثناء هذه التدريبات نشرت صحيفة روسية متخصصة في شؤون السلاح تقريراً عن حصول مصر على أسلحة تمكنها من تحطيم منشآت خرسانية، وجرى تداول التقرير في موقع (روسيا اليوم) التابع للحكومة الروسية. :ب- رفع سقف المطالب وخلال دخول لفظة الحرب في حال فشل المساعي الديبلوماسية، للمرة الأولى، ساحة السجال السياسي بين مصر والسودان من جهة، وإثيوبيا من جهة أخرى، بشأن سد النهضة، جاء حديث رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لبرلمان بلاده في 22 أكتوبر 2019م، أنه «إذا كانت ثمة حاجة لخوض حرب فيمكننا حشد الملايين.. وإذا تسنى للبعض إطلاق صاروخ فيمكن لآخرين استخدام قنابل.. وهذا ليس في صالح أي منا»، وكان هذا الحديث أيضاً عشية لقاء مقرر بينه وبين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في منتجع سوتشي على هامش قمة (روسيا - إفريقيا 2019)، حيث ترغب إثيوبيا إشراك روسيا بدور الوساطة، وفي المقابل ترغب مصر بمفاوضات ترعاها الولاياتالمتحدة وليس روسيا. ولا شك أن تصريحات آبي أحمد جاءت وسيلة لرفع سقف المطالب خلال أي تفاوض، أو انتزاع التزام مصري بعدم اللجوء إلى استخدام القوة أمام القوى الدولية، وهذا ما حدث فعلاً من خلال إصدار وزارة الخارجية المصرية بياناً يرفض تلميحات آبي أحمد، ويؤكد على الخيار السلمي. :ج- محاذير دولية لا شك أنه في ظل مراوحة المواقف الديبلوماسية في مكانها، والتي تنبئ بأن الخيار العسكري بات حتمياً، وذلك من خلال المناورات العسكرية التي أجرتها مصر والسودان في مايو 2021م، إضافة إلى سعي مصر إلى إبرام اتفاقات عسكرية مع دول الجوار الإثيوبي، فإن ذلك كلّه ربما لا يمكنه تجاوز كلمة واشنطن في قضية سد النهضة، حيث رفضت الولاياتالمتحدة ودول أوروبية الحل العسكري للأزمة، ومالت جميعها إلى حلّ سياسي تتوافق عليه الأطراف المتنازعة، رغم أن مصر والسودان يريان أن إعطاء المحادثات مزيداً من الوقت، سيكرس سياسة الأمر الواقع الإثيوبية، ويمنحها سلاحاً رادعاً يلغي فكرة أي خيار عسكري لدولتي المصب مستقبلاً، لا سيما بعد امتلاء السد. ولهذا نجد أن القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإفريقية روبرت غوديك حذر مصر والسودان من القيام بأي عملية عسكرية لسد النهضة، لأنها ستكون كارثية، وأن بلاده تسعى إلى التوصل لحل على المدى الطويل لمسألة المياه. كما أكدت هذا المفهوم المتحدثة باسم الاتحاد الأوروبي نبيلة مصرالي أن موقف الاتحاد الأوروبي ومبعوثه لمنطقة القرن الإفريقي يتطابق مع الموقف الأميركي. ثانياً: المحور العسكري ثمّة من يقول إن الملء الفعلي قد وصل إلى القدر الذي قد يسبب ضرراً بدولتي المصب، وخصوصاً السودان، مما يصعّب هذا الحل العسكري، لا سيما أن ضرب السد بعد ملئه سيؤدي إلى تدفق ملايين المترات المكعبة من المياه، عبر النيل الأزرق، لتدمِّر سد الرصيرص السوداني، وربما أيضاً تُحدث دماراً هائلاً في السدود المصرية. ونتطرق في هذا المحور إلى إمكانية قيام مصر وربما معها السودان بعمل عسكري لتعطيل سد النهضة عن العمل أو تدميره، وذلك عن طريق الآتي: :أ- عمليات برية تمتلك مصر قدرات عسكرية برية تتفوق بمراحل كبيرة على القوات البرية الإثيوبية، حيث إن غالبية معداتها أميركية حديثة، بما في ذلك دبابات وطائرات مقاتلة، إضافة إلى كميات متزايدة من الأسلحة الجديدة من روسيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، كما أن إثيوبيا ليست على استعداد لخوض أي حرب شاملة، حيث إن عمر وجودة معظم أنظمة أسلحتها ومعداتها العسكرية تعود إلى الحقبة السوفييتية. لكن هذا التفوق العسكري لا يعني أن مصر لن تواجهها عقبات، فيما لو حاولت القيام بأي عمل عسكري تجاه إثيوبيا، بل إن قرار شن هجوم بري ضد إثيوبيا يحفه العديد من المخاطر، وذلك لعدم وجود حدود برية بين مصر وإثيوبيا، ومن ثم يجب السماح للقوات المصرية اجتياز السودان للوصول لإثيوبيا، وهذا الأمر أيضاً يواجهه العديد من العقبات، رغم أن مصير السودان المائي مرتبط بمصير مصر، بسبب الأضرار العائدة عليهما من بناء سد النهضة، ومن أهمها العقبات التكتيكية التي تعرقل القيام بعمل عسكري بري، حيث إن معظم القواعد العسكرية المصرية تقع شمال وشرق البلاد، والمنطقة المركزية العسكرية تقع في القاهرة، إضافة إلى أن قدرات النقل العسكرية في مصر محدودة، فهي لا تستطيع نقل القوات والمعدات العسكرية مع الحفاظ على استمرارية العمل اللوجستي بالصورة الكافية لشن أي توغل عسكري بري كبير في إثيوبيا عبر السودان، لاسيما إن علمنا أن المسافة بين الحدود المصرية والحدود الإثيوبية عبر السودان 1270 كلم، وبسبب هذه العقبات يمكننا القول إنه من المستبعد شن هجوم بري مصري تجاه سد النهضة الإثيوبي، وبالتالي تحييد عنصر تفوق عسكري رئيسي لمصر. : ب- هجمات جوية قد تكون الهجمات الجوية المفاجئة الخيار الأكثر واقعية لمصر لوقف تشغيل السد الإثيوبي، وعلى الرغم من بُعد السد عن مصر، إلاّ أن الطائرات المصرية يمكن أن تستخدم المطارات السودانية في تنفيذ عملية القصف، لكن بعد المسافة بين مصر وإثيوبيا تجعل القصف الجوي هو الخيار الواقعي لمصر لأي عمل عسكري تقوم به لتدمير السد، لا سيما أن لدى مصر طائرات رافال الفرنسية، وطائرات F16 الأميركية وسخوي 35 الروسية، والتي يمكنها توجيه ضربة جوية مؤثرة للسد الإثيوبي. وحتى لا تكون السودان من خلال مشاركتها في هذه العملية عرضة لرد عسكري مباشر من إثيوبيا، فمن الممكن شن هذه الهجمات من قاعدة أسوان أو من قاعدة برنيس العسكرية على البحر الأحمر، خصوصاً أن مقاتلات الرافال عليها صاروخ سكالب (ستورم شادو) الفرنسي، والذي يعدّ أقوى الصواريخ المدمرة، بحسب رأي الكثير من المحللين العسكريين، لأنه مصمم لضرب الأصول الثابتة عالية القيمة، ومنشآت الرادار، والقواعد الجوية، ومنشآت الموانئ، ومراكز الاتصالات، إضافة إلى اختراق التحصينات والدشم، عدا أنها قادرة على توجيه ضربة عسكرية والعودة إلى قواعدها مرة أخرة، دون معوقات التزود بالوقود. لذلك يمكننا القول إن الضربة الجوية تعد أفضل الخيارات وأكثرها واقعية لمصر لوقف تشغيل السد، رغم ما يحفها من معوقات ومخاطر. ثالثاً: معوقات الضربة العسكرية إن فكرة الحلول العسكرية إن تمت ينبغي أن يكون هناك تقدير تام لعواقبها الناجمة، وتقدير تام لكميات مياه السد المخزنة، فضلاً عن موافقة الدول الموردة للأسلحة المستخدمة. لذلك سنتطرق إلى هذه الأمور من خلال النقاط التالية: : أ- التزام مصري نعتقد أن مصر لا تستطيع استخدام الطائرات أو القنابل لضرب سد النهضة، لأنها ملتزمة بمجموعة من البروتوكولات الموقعة مع الدول المصنعة لهذه الأسلحة، وربما قد اشترطت استعمالها في حالات محددة، وبالتالي لن تقبل ضرب السد. : ب- تحصين إثيوبي من خلال الاطلاع على آراء الكثير من المحللين العسكريين فإنهم يجمعون على أن الضربة العسكرية المؤثرة للسد يجب أن تكون لقواعد السد، وبحسب هذه الآراء أن ذلك صعب الوصول إليه، وبالتالي ستكون الضربة موجهة للجزء الأعلى من السد، مما يؤثر في التشغيل وتعطيل عمل السد، لأن هدف تدميره يقتضي وصول القنابل إلى عمق السد. والأمر المهم في موضوع التحصين أن إثيوبيا قد نصبت قواعد حول السد لحمايته من هجوم محتمل بمساعدة إسرائيل والولاياتالمتحدة، حيث قامت إسرائيل في عام 2019م بتركيب نظام (سبايدر)، وهو من الأنظمة الدفاعية القوية المضادة للطائرات، وصمم لحماية السد الإثيوبي، وهذا قد يشكل تهديداً واضحاً لأي هجوم جوي مصري، وهذا ما أعلن عنه قائد القوات الجوية الإثيوبية الجنرال يلما مورديسا، في الأول من أكتوبر 2020م أن بلاده لديها القدرة على صد أي هجوم من أي قوة تسعى لتدمير سد النهضة. :ج- عواقب انهيار السد لا شك أنه في حال جرت ضربة عسكرية لسد النهضة فإن خراباً هائلاً ستتعرض له المناطق التي يمكن أن تجتاحها الفيضانات الناتجة عن الانهيار، خصوصاً أن تصميمات بناء السد يوجد بها العديد من العيوب الفنية ما قد تسبب كارثة في حال انهياره، إضافة إلى أن الحدودية السودانية تبعد عن السد كيلومترات قليلة، وسواء أكان التدمير كلياً أو جزئياً فإن ذلك سيكون له آثار كارثية على المناطق التي تجتاجها الفيضانات، كما ستمتد آثاره الكارثية إلى مصر، وسيؤدي لإحداث خلل بيئي، وربما تحريك النشاط الزلزالي في المنطقة، نتيجة الوزن الهائل للمياه المثقلة بالطمي والمحتجزة أمام السد، والتي قد تؤدي إلى تغيير مجري النيل ليصب بدولة جنوب السودان ثم في مجرى النيل الأبيض القادم من أوغندا. كذلك أكد الكثير من الخبراء أن خطورة بناء السد تكمن أيضاً في أن سعته التخزينية تُقدر ب 70 مليار م3، وهي نسبة خطيرة في منطقة قابلة للتعرض للزلازل والهزات الأرضية، وهذا بالطبع عيب تصميمي خطير، وغياب كامل للدراسات المطلوبة، إضافة إلى غياب المهندس الاستشاري المحايد. ختاماً لهذه الدراسة، ووفقاً للمعطيات التي ذكرناها، لا سيما في حال تغيّرت حسابات مصر، والتفتت إلى التهديد الذي يمثله سد النهضة، فسيكون خيار تنفيذ ضربة جوية حاسمة لإخراج السد عن الخدمة هو الخيار الأخير، رغم العديد من المخاطر الناجمة عن هذه الضربة، وأقلها احتمال حدوث إخفاق عسكري محرج، إلاّ أن الخيار الأمثل هو أن تنصاع إثيوبيا إلى لغة العقل، وتحترم حقوق الدول المتشاطئة.