أن تُعبّر في مُنجزك الإبداعي المتوالد من رحم الموهبة بلغة مفعمة بالتمكن؛ ذاك هو العبور نحو الأجمل والأعمق والأسمى، وأن تُوفِّق بين الأصالة والمعاصرة في نوع أدبي؛ دليل إدراكك للمشهد الأدبي الثقافي بتجلياته المكتوبة؛ كل ذلك لا يطالهُ أديبٌ ما لم يؤتَ لغة خاصة يُحسن إكرامها في إحساسه كنعمةٍ، وفي لسانه عند إطلاقها شدواً، وحين مصافحتها ورقة بيضاء؛ كتابة، هذه اللغة تبيّن لنا درجة تشكُل وعي الشاعر وسعة أُفقه ومداركه؛ ذلك ما بدا لي بعد مطالعة عدد من قصائد ديوان: (غواية بيضاء) للشاعرة ملاك الخالدي، الصادر عن نادي الجوف الأدبي. جاءَ هذا الديوان في حلةٍ بيضاء، كان غلافه أولى عتبات البياض، ثم ما تتالى بعد ذلك من شعور إنساني انسيابي شفيف يسكن عدداً من الأبيات، تشعر معه كأنما الذات الشاعرة تهمس بالقرب من كل أذن لتنبئ «مثلُ خبير» عن ألم مُختزن، وعن أملٍ لا ينكف ينتظر مدىً يتمدد في أُفقه؛ كان المعين على ذلك لغة الشجن الفارهة التي لم يخل منها أي من نصوصه. هو ديوان تبدت من خلاله قدرة شعرية مُعزّزة بالقدرة على تطويع اللغة، تُثبت ذلك أكثر من قصيدة حين جاءت «بمائز فني إيقاعي»، و»جودة اختيار تركيبية»، و»حسن توظيف تراثي» تُضيئه مساحة البوح العامرة بالمفردات المعززة للصورة الإبداعية، غير ذلك «هيكلة شعرية خليلية مموسقة» تستوعب أحاسيس المتلقي الناهم للشعر. في قصائد ملاك الخالدي أبيات مُحلّقة صيغت بلغة مفعمة بالشاعرية، وبدقة تصوير الشعور لحظة إحساسه؛ ففي قصيدة (غربة البياض) نجد: أما آن للصبح قُرب انفراج أما آن للزفراتِ رحيل والبيت الذي يقول: مللت اصطبار الأسى دون شكوى مللت مناجاة حزني الجميل. تُرى أيُ شعورٍ ينتاب المبدع لحظة الكتابة؟!. «مللت مناجاة حزني الجميل» إن َالشطر الذي يسبقه هو الأقسى؛ لكنَ لغة الأمل تنبثق من بين كل حرف من هذا الشطر الذي تبرز بجلاء الاعتداد بالذات، وتفاهة الحياة مع اليأس. والصبر الممتلئ بالحكمة نجده شاخصا ًفي بيتٍ تالٍ من القصيدة: «مللت وجوم الخريف الطويل» وكأن مفردة (الطويل) هنا دالة على أن هناك متسعاً من الأمل أطول من تمددات ذلك الأسى، وتستمر لغة الأمل في بقية أبيات القصيدة إلى ما قبل الأبيات الخمسة الأخيرة؛ حيث تبدت فيما بعد لحظة الشعور باليأس كقيمة تعبر ليس عن الوصول إليه؛ إنما ظهور حدود قدرة النفس البشرية، وأنها تتأثر عند تتابع الوجع كمحافظة على (وحدة موضوعية النص)، وتأكيداً لبنائه الفني، ومن ثم العمل على ترابطه، حتى تتضح سيرورة النص إلى مُبتغىً ترنو له كل ذاتٍ متعبة في الحياة؛ ذلك نشعره من خلال الشطرين: أيا ليل هلّا أجبت انشطاري.. إلى.. ولكن قلبي تشظى انفطاراً. وتعود لغة الوعي بأهمية التعايش مع أوجاع الحياة ، واستسهال صروف الأيام، وإبداء عين الرضا والقبول فيما يُقدر على الإنسان في حياته؛ بلغة ذات حكمة وصبر عاقل؛ مع اعتزاز الذات بذاتها إذ تحوّل الألم في الإحساس ومن بعد في القصيدة إلى غناء، والحزن إلى شقشقة؛ ذلك الألم، وذلك الحزن اللذين لا يعدهُما القلب الحاكي هنا في متن النص سوى شيء من فرح؛ هذا ما نجده في قصيدة (لا تأس يا قلب) حين تقول الشاعرة: لا تأس يا قلب إن غنّى لكَ الألمُ وشقشق الحزن واستشرى بكَ السقمُ وتعود الذات لتعزز لغة التفاؤل التي بدأتها قبلا بملاطفة النفس، والربت على أحاسيسها، و تبريد آهاتها، بيقين مشعور يطل بوجهه البهي من بين السطور؛ وهو ما يتمثل في البيتين التاليين: لا تأس يا قلب فالأيام غاديةٌ تبعثر الدمع والآهات تنصرمُ وتدور المناجاة مع القلب، وتتأكد في كل مرة، وبشكل دائري عرض الشكوى، وملاطفة الإحساس الذاتي بانصرام الوجع في بيتٍ ثانٍ: لا تأس يا قلب فالأشجان أغنيةٌ فغن لمن في بؤسهم سئموا ومن الجودة بمكان أن نشير هنا إلى لمحة فنية رائعة في الشطر الثاني لم تقل الشاعرة «فغن لمن من بؤسهم سئموا» لكنها قالت «فغن لمن في بؤسهم سئموا» وفي هذا إبداع فني أنْ ليس للإنسان أن يستسلم للسأم بمجرد تأثيره العابر به؛ إنما لمن هو في بؤرة السأم والحزن والأسى، وهذه من أجمل إضاءات هذه القصيدة فثمة مفاوز بين حرفي (مِن) و(في) لحظة توظيفهما. وفي البيتين التاليين: لا تأس يا قلب كم قاسيت من مِحَنٍ فكنت طودا وماجت دونك القممُ نشعر بثبات الثقة بالنفس أمام ما يقابلها في هذه الحياة من موجعات، وبتصوير متقن عمدت فيه الشاعرة إلى الإتيان بتقنية التصوير الدلالي التجسيدي المعبر عنه نقديا ب(أنسنة الجمادات) بعيدا عن المباشرة واللغة المترهلة، مع الاحتفاظ بقيمة الآخر ومكانته حين وصفها له بالقمم وتقترب القصيدة من خاتمتها وهي لا زالت مُشبعة بالأمل: لا تأس يا قلب و ارسم كل ضائقةٍ شعراً على مسرح الأوجاع يبتسمُ إن الشاعر الحقيقي هو من يشعر بالراحة بعد كتابة الشجن شعراً ؛ لأن الشعر ليس ما تكتبه؛ بل ما تمحوه من أوجاعٍ لحظة الكتابة. ومن روائع معزوفات هذا الديوان أيضاً، تلك المعزوفة الأولى من قصيدة (حنين البياض) المعنون لها ب(شذرات قلب) لما ضمته من إيقاعٍ آسر، و تمازج شعري لغوي كثيف يُدخل المتلقي في أجواء الذات الشاعرة؛ تعززه لغة النداء الضمني الجلية بحرف (مَنْ)، وبأسلوبٍ شعريٍ عذب استفهامي حزين؛ تتماهى معه الذائقة ولا تريد للقصيدة من توقف: من يمسح الحزن إن أسرجت دمعاتي ومن يُلوّن بالأفراح أبياتي؟! ومن سيُرسل بوحي إن مضى جسدي ومن سيُسقي زهوري في الغدِ الآتي ومن؟! وتنثال في الأعماق قافيتي كأنها الريح والأمواج آهاتي في النص السابق إيقاعية مميزة دلت على تأكيد بداية نضوج التجربة الشعرية لامتلائها بالتساؤلات عند تكرار حرف (مَنْ)، وبذلك بقاء النص في ذهنية المتلقي يتأمل تلك التساؤلات باحثاً عن إجابات يعيش معها في واحة القصيدة. * شاعرة ومترجمة، وأديبة سعودية، من مواليد سكاكا عام 1986م، طُبع لها ديوان: «غواية بيضاء»، نادي الجوف الأدبي 1431ه.