سعدية مفرح وأشجان الهندي صوتان شعريان بارزان في الجزيرة العربية، ومن الأصوات الشعرية النسائية المهمة على مستوى العالم العربي. وحين أقول «النسائية» فإنني لا أرمي إلى تحجيم حضور الشاعرتين ضمن دائرة الأنوثة، وإنما لألفت النظر إلى أهمية بعض الهموم التي تعبران عنها من زاوية كونهما شاعرتين وعلى نحو لا يتوقع أن نجده لدى الشعراء. وإلا فالشاعرتان فيما أعرف من الشعر العربي الحديث، سواء صدر عن المرأة أوالرجل، اسهام لافت على خارطة الشعر العربي الحديث على النحو الذي يتضح من تأمل بعض الظواهر التي تطالع القارئ لشعرهما، سواء على مستوى التقنية الشعرية أو مستوى القضايا التي تشغلهما. ولقد رأيت أن أتناول فيما يلي ظاهرتين من الظواهر المشار إليها، تتعلق إحداهما بتقنية القصائد والثانية بالقضايا التي تطرحها، وهما مسألتان متداخلتان إلى الحد الذي يجعل الفصل بينهما ممكناً فقط على مستوى التحليل. لكن قبل الدخول في تفاصيل الظاهرتين المشار إليهما أرى من الضروري أن أعرف بالشاعرتين لرسم السياق الخاص بكل منهما ضمن السياق الأكثر عمومية للشعر في منطقة الخليج والجزيرة العربية التي تنتميان إليها. فسعدية مفرح كويتية من مواليد عام 1964م في الكويت نفسها وتنتمي شعرياً إلى جيل التسعينيات من القرن العشرين «حسب تاريخ نشر قصائدها الأولى» لها حتى الآن أربعة دواوين منشورة صدر أولها عام 1991،والأخير عام 1999. وسعدية حاصلة على بكالوريوس اللغة العربية من جامعة الكويت وعملت منذ تخرجها في حقل التحرير الثقافي في الصحف الكويتية، وهي حالياً رئيسة القسم الثقافي بجريدة «القبس» الكويتية. أما أشجان الهندي فسعودية ولدت في مدينة جدة عام 1968 وتنتمي عملياً إلى جيل التسعينيات نفسه، فمع أن أولى قصائدها المنشورة في ديوانها الأول «للحلم رائحة المطر» نشرت عام 1986م، فإن معظم القصائد جاءت مع بداية التسعينيات. وأشجان حاصلة على درجة الماجستير من جامعة الملك سعود وتعد الآن للحصول على الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة لندن، ولها كتاب مطبوع هو رسالتها للماجستير، عنوانه «توظيف التراث في الشعر السعودي». موضوع رسالة أشجان، أي توظيف التراث في الشعر، هو احدى الظاهرتين اللتين أشير إليهما في هذه الورقة، فهي ملحوظة في بعض قصائد ديوان أشجان المشار إليه، كما أنها ملحوظة في بعض دواوين سعدية مفرح. وهذه الظاهرة، أو التقنية بالأحرى، هي ما أشير إليه بتضفير النص في عنوان الورقة، وأقصد بذلك كتابة نص متداخل مع نص أو نصوص أخرى على نحو يجعلها متضافرة، كخصل الشعر حين تضفر في الجديلة الواحدة. ومع علمي بأن ما أشير إليه لا يختلف كثيراً عن التقنية المعروفة بالتناص في النقد العربي الحديث، فقد تعمدت الابتعاد عن ذلك المصطلح لأنه لا يتضمن، في استعمال واضعيه من النقاد الأوروبيين، وبالتحديد الناقدة البلغارية / الفرنسية جوليا كريستيفا، ما أقصده هنا، وما يقصده كثير من مستعملي ذلك المصطلح من النقاد العرب. فتضفير النص هو ببساطة ما ينتج من مزج نصين شعريين مختلفين لدلالة أو لغرض جمالي معين، ولا يتضمن ذلك بالضرورة تساوي النصين في الحضور، فمن الواضح أن ثمة نصاً رئيساً وآخر وافداً أو مستدعى لاحداث التضافر الذي قد يتضمن بعض التعديل للنص المستدعى. أما الظاهرة الأخرى المشار إليها فهي المتمثلة باشكالية البوح أوالتعبير التي تتصل بظاهرة التضفير اتصالاً فنياً أو تقنياً، حيث إن النص الآخر المستدعى يمثل للمشاركة في التعبير عن الاشكالية على نحو ما ولأسباب تتغير من نص إلى آخر، ففي بعض القصائد يكون الاستدعاء مناسباً لاشكالية البوح وأحياناً لا يكون. وسيتضح ذلك من قراءة بعض القصائد موضوع التناول هنا. لكن من المهم بدءاً الاشارة إلى أن اشكالية البوح تأتي أحياناً متصلة موضوعياً بقضايا اجتماعية أو سياسية، وفي أحيان أخرى تأتي متصلة بمعاناة ذاتية عاطفية. هذا بالاضافة إلى الاختلاف الملحوظ بين الشاعرتين في نواح أخرى من هذه التقنية وما توظف له على النحو الذي ستسعى المناقشة التالية لايضاحه. غير أن الصلة بين التضفير والبوح وإن انسحبت على كل القصائد المتناولة هنا لسعدية مفرح، لا تنسحب على كل قصائد أشجان الهندي، فمن قصائد هذه الأخيرة ما يوظف التقنية المشار إليها دون ارتباط موضوعي بأزمة في البوح، وإنما بأزمات أو مواقف أخرى. أود أن أبدأ بقصائد سعدية مفرح والتي تضمنها ديواناها آخر الحالمين كان 1992 وهو ديوانها الأول، وكتاب الآثام (1997). في الديوان الأول تطالعنا قصيدة بعنوان «عندما يتكلم الطير» كتبت عام 1987، والتاريخ مع بعض المؤشرات النصية ترجح كون القصيدة بالفعل من بدايات الشاعرة. لكن ما يلفت الاهتمام هنا هو أولاً هاجس اللغة إذ تتحول إلى اشكالية في علاقة عاطفية وفي سياق حياة اجتماعية ذات سمة قبلية أو بدوية. عنوان القصيدة مستمد من نص شعري شعبي بدوي للشاعر والفارس راكان بن حثلين الذي اشتهر بأعمال بطولية متداولة وبقصائد من أشهرها تلك التي تقتبس الشاعرة بعضها في ثنايا قصيدتها، لا سيما في نهاية القصيدة، ففي النهاية يرد بيت راكان الذي يقول: يا بو هلا طير الهوى خبث البال طبعه خبيث والحباري قليلة والبيت، مثلما الأبيات الأخرى المقتبسة في قصيدة سعدية، بل مثلما كثير من الشعر النبطي والثقافة الشفاهية عموماً، رويت بأشكال مختلفة، وما اقتبسته الشاعرة قد يكون هو الشكل الأكثر شيوعاً وإن لم يكن بالضرورة هو الأصح. وبتقرير هذا فإننا نقرر مسألة ذات مغزى، هي أن الشاعرة معنية بالمخيلة الشعبية أكثر مما هي معنية بالشعر بحد ذاته، أي بالرواية الصحيحة. فهي من خلال الأبيات تستند إلى تلك المخيلة الشعبية تقيم معها حواراً من خلال مدلولات الأبيات المقتبسة وعلى النحو الذي يمكن أن يثري النص الحديث. أبيات راكان بن حثلين جزء من سياق بدوي ينتشر في أجواء القصيدة من خلال عدد من المفردات والصور، بالاضافة إلى الأبيات، ليشكل حضوراً نصياً مهماً أو أساسياً في تشكيل دلالات القصيدة وجمالياتها: أستأصل أجهزة الصوت لدي وتعلقها أعلى أعمدة البيت أجهض لغتي الحبلى بالأحرف أتركها فوق الأرفف تنساها في خرج ذلولك نتعلم كيف تسير ركائبنا في قافلة الصمت ثمة أجواء بدوية واضحة هنا من خلال عناصر الحياة في الصحراء: أعمدة البيت والذلول والخرج والركائب والقافلة، الخ. وفي هذه الأجواء تأتي رغبة الشاعرة في التوقف عن الكلام تفضيلاً للصمت مع الحبيب الذي يشاركها الرغبة في التخلص من الصوت والكلام. أما الهاجس وراء ذلك فهو الشعور بأن الحوار الصامت أجمل وأبلغ من كل الكلام الذي يمكن أن يقال، فالحوار «أرقى من أن يسكن في الكلمات» . هذا بالاضافة إلى رغبة ملحة لدى الشاعرة في الثورة على المؤسسة اللغوية المتمثلة بالقواعد الموروثة في النحو وما يتصل به من لغة فصيحة. ذلك أن الخروج على تلك المؤسسة يعني أننا «لا نلحن أبداً/ لا نخشى غضب النحويين الحمقى/ المشغولين برفع الفاعل..» بين العاشقين تتغير المعادلة ليصير «الحب هو الفاعل» ويصير «القلب هو المفعول». غير أن الحاجة إلى الصمت واللجوء إلى الحب كملجأ من القيم السلطوية للمؤسسة الاجتماعية «القبيلة والثقافة الشعبية» واللغوية «تراث الفصحى» تتلاشى بمجرد انبعاث الصوت الشعري الجميل القادم من قصيدة راكان البدوية: «يا ماحلا الفنجال مع سيحة البال/ في مجلس ما فيه نفس ثقيلة»، لا سيما البيت الذي يصف الهوى بأنه طير خبيث: فأشد «رواق» الأذن أرخى حبل القلب أكسر أعمدة البيت ما عاد الصمت له حيله فالطير خبيث والصمت الكاذب أخبث لينتهي ذلك كله بمواجهة الشاعرة لنفسها واعترافها بأنها تحمل قلباً لا يستطيع التمرد طويلاً على البيت الموزون بما يمثل من ثقافة تقليدية هي من صلب تكوينها: «وأنا عش جسدي/ لحباري سكنتني منذ سنين/ ولقلب القلب المشطور/ ببيت موزون». هذه المفارقة الأخيرة، انشطار القلب ببيت موزون، تمثل تصعيداً درامياً تختتم به الشاعرة تصويرها لاشكالية معاصرة تعيشها بوصفها مشدودة الى ثقافتين متباينتين، ثقافة مدنية حداثية المنزع تتمثل في شكل القصيدة التفعيلي نفسه، وأخرى بدوية صحراوية تتسلل عبر ذاكرة الشاعرة ووجدانها من خلال أبيات راكان بن حثلين. وسيتبين من خلال المقارنة القادمة بعد قليل بين هذا النموذج الذي تطرحه سعدية مفرح والآخر لدى أشجان الهندي أن سعدية، على عكس أشجان، تفضل ابقاء الأبيات المقتبسة خارج اطار التناغم مع نصها الشعري، بمعنى أن ما تقتبسه يظل مختلفاً تتقاطع معه القصيدة الحديثة لكنها لا تحتويه. فالإيقاع مختلف بين النصين، لكن استثمار الدلالة يبقى في تأكيد القصيدة التقليدية على قوة المشاعر وانصياع الشاعرة لتلك القوة. التقنية نفسها تتكرر وإن على مستوى أكثر تركيباً في قصيدة متأخرة نسبياً للشاعرة ضمن ديوانها كتاب الآثام 1997 ففي قصيدة «إثم الكلام» تطرح اشكالية البوح مرة أخرى وتتخذ الشاعرة مواقف متباينة من «ارتكاب» ذلك الإثم، ففي البدء يتضح أن ضرورة البوح مع ما قد يجره من مشكلات أو آثام يقف خلف كل الأشياء الجميلة في حياتنا: ما الذي يمنح الحب أوقاته أزرقه المتموج رعشته في اليدين ... ما الذي يمزج للشمس ألوانها ثم يمشي الهويني يهودج أحلامها ... ما الذي يصطفيني امرءاً مدنفاً بالكلام غير إثم الكلام؟ يتلو ذلك وجه آخر يبرز فيه الكلام وقد اتخذ الصورة المغايرة تماماً، أي حيث يصير إثماً بالمعنى الحرفي، لا المجازي أو المفارقة كما في الوجه الأول. ما الذي يدفع الروح نحو الهلاك يسمل عين الحقيقة ... ما الذي يسلب الليل ملمسة المخملي السخي ... ما الذي يصطفيني امرءاً مختنقاً بالكلام غير إثم الكلام؟ إثم الكلام ناتج من الأوضاع الإنسانية المهينة التي يعيشها العرب وتعيشها الشاعرة معهم على المستويات السياسية والحضارية، فعلى هذه المستويات جميعاً يكثر الكلام ولكن دون جدوى: «تعبنا إذن/ وما تعب الكلام/ نفدت مياه الامتهان/ وما نفدنا». وبطبيعة الحال فإن امتهان الكلام بتحوله إلى مجرد ضجيج يحمل معه سقوطاً للأدب نفسه ومنه الشعر الذي يستثار هنا في شخص رمزه الكبير، شاعر العروبة أبو الطيب المتنبي، حين تنشئ الشاعرة أبياتاً موزونة مقفاة تعارض بها عدداً من القصائد التراثية أبرزها قصيدة معروفة للمتنبي، لتوظفها في حقل دلالي جديد: أعرني أبا الشعراء شعرك إنني أضعت قصيدي هل تضيع القصائد أريد قصيداً جاهلياً ومحدثا تسير به الركبان انك صائد لأجمع حزني من بلاد كثيرة وأحسو قراح الحزن حباً أكابد فلي أمة تزهو بعشرين دولة ولي دولة تزهو وإني لواحد واختبر الأوطان على أجد بها مكاناً فلا أنفي طريداً أطارد فنفى لأني ثم نفى لأنني تعددت الأسباب والنفي واحد لتتبع ذلك مباشرة، وعلى نحو يصل النص العمودي بالتفعيلي ويسهل الانتقال: «وفوائد / وفوائد/ وفوائد». وما من شك أن كسر التقليد الشعري المألوف بتكرار مفردة «فوائد» مثلما هو الحال في البيت السابق «لأني ولأنني»، من شأنه ان يعمق التمرد على ما يمكن أن نسميه مؤسسة التراث الشعري التي قد ترى في التكرار الشعري ضعفاً، إلى جانب الرسالة السياسية التي يحملها بتأكيد اللعبة السياسية التي كثيراً ما تتم بعيداً عن المصالح الوطنية. الملاحظ، كما أشرت قبل قليل، أن النص لا يستعيد المتنبي وحده وإنما إلى جانبه نصوصاً لشعراء آخرين من خلال أبيات متفرقة تسير على الوزن والقافية نفسيهما، والمهم في كل تلك الحالات هو استنطاق الموروث لكي يعبر عن اشكالية الشاعر المعاصر وهو يواجه انهيار قيمة التعبير نفسه، أي انحدار قيمة الأدب، وأي انحدار أكبر من ضياع القصيد! لكن النفي الشخصي للشعراء والمثقفين مصيبة أخرى كبيرة تضاف إلى الانحدار الثقافي وتلاعب السياسة. أيضاً مما يستوقف القارئ اختلاف أسلوب الاستعادة، أو ما أسميته بالتضفير النصي، في هذه القصيدة عنه عما قبلها، وكذلك عما نجده لدى أشجان الهندي، كما سنرى. فبدلاً من توزيع الأبيات على النص أو نثر عدد من المفردات، تعمد الشاعرة هنا إلى ادخال نص شعري مغاير لبنية القصيدة ككل في كونه موزوناً مقفى. كما أن النص، وهذا هو الأبرز، ليس مقتبساً من شاعر آخر، وانما هو نص يحاكي ما سبقه من خلال التشابه البنائي من ناحية، وبعض التشابه في المفردات من ناحية أخرى، مما يذكرنا وباستمرار بأن ثمة نصاً في خلفية الصورة لا نلحظه في مقدمتها، كما هو «النيجاتيف» المعروف. * ألقيت هذه الورقة ضمن فعاليات الملتقى الشعري السادس لدول مجلس التعاون في الرياض 22- 24 شعبان 1423ه.