* أنتم الناس أيها الشعراء جملة شعرية جميلة,, أطلقها الشاعر الراحل أحمد شوقي ضمن قصيدة من أشهر قصائده التي لا تزال نحفظ بعض أبياتها التي سارت مسار الأمثال مثل قوله: 1 خدعوها بقولهم: حسناءُ والغواني,, يغرُّهن الثناء 2 جاذبتني ثوبي العصيَّ ,, وقالت: أنتم الناس,, أيها الشعراء ,, هذه الجملة أطلقها أنيس منصور على كتاب صغير له، أصدره بهذا العنوان قرأته أكثر من مَرَّة. وقد حشد في الكتاب مجموعة من التعريفات والأوصاف للشعر مثل: الشعر,, طريق إلى عالم أفضل وأجمل من عالمنا. الشعر,, كائن له نزوات,, يريد كل شيء ولا يشبع من شيء. الشعر,, أن تكون متجدداً مثل زبد البحر,, وأن تكون عريقاً عنيفاً مثل صخوره. الشعر,, كل الحقيقة,, الفلسفة بعض الحقيقة,, الفلاسفة ينقصهم الشعر,, الشعراء لا تنقصهم الفلسفة. الشعر,, لا يمنحك الحياة,, ولكنه يجعلك جديراً بها. * بعد ذلك ينتقل المؤلف الى الحديث عن الصفات والمهارات التي ينبغي أن تتوفر في الشاعر، ويحددها في الآتي: يحتاج الشاعر إلى القدرة الفائقة على النفاذ إلى أعماق الأشياء, والى الألفة مع الأدوات التي يستخدمها لبلوغ أعماق الصور والموسيقى الداخلية . والى الحضور,, لكي يحدد الزمان والمكان. وإلى الحماس,, فبدون حرارة لا تنضج المعاني. وإلى أن يكون لديه حضور عقلي,, وحضور وجداني,, أي الحضور والغياب معاً,, لكي يجيء الشعر من لحظة تنوير داخلي. * ولعل من الاطروحات الجميلة التي أعجبتني في الكتاب قوله: لا تسأل الشاعر ما هي النظرية التي يؤمن بها . ولا تسأله عن المعنى العام لشعره,, أو إن كانت له فلسفة . اترك الشاعر يغني ما يعجبه,, فالذي يعجبه هو الذي يريحه,, والذي يريحه هو الذي يتسق مع الفيض الوجداني لشعره، في لحظة ما,, لأسباب ما,, فهو أقل الناس دراية بها,, وقدرة على شرحها. ويقول الشاعر الروماني هو راس : الشعر رسم ناطق,, والرسم شعر أخرس بمعنى: أن القصيدة لوحة ناطقة,, واللوحة قصيدة صامتة. وهذه المقولة تبين العلاقة والتداخل القوي بين الشعر والتشكيل. ويرى أندرسون من علماء الاجتماع وجود ارتباط ما بين الموسيقى,, والشعر,, والايقاع الحركي, فهناك اطار واحد يربط بين الكلمة,, والنغمة,, والحركة. وفي كتابه قصتي مع الشعر يقول الشاعر العربي الراحل/ نزار قباني، وتحت عنوان اللغة الثالثة : أول ما شغل بالي، حين بدأت أكتب الشعر، هو اللغة التي أكتب بها، وبالطبع كانت هنالك لغة، بل لغة عظيمة ذات امكانات وقدرات هائلة، لكن اللغويين فرضوا عليها احتكاراً رهيباً وأقفلوا عليها الأبواب . ويضيف قائلاً: إلى جانب هذه اللغة المتعجرفة التي لم تكن تسمح لأحد بأن يرفع الكُلفة معها، كانت اللغة العامية تقف في الطرف الآخر نشيطة، متحركة، مشتبكة بأعصاب الناس وتفاصيل حياتهم اليومية . ثم يصف العلاقة بين هاتين اللغتين إذ يقول: بين هاتين اللغتين كانت الجسور مقطوعة تماماً, لا هذه تتنازل عن كبريائها لتلك، ولا تلك تجرؤ على طرق باب الأولى والدخول في حوار معها . ثم ختم هذه المقارنة بإيجاد حل لهذه الاشكالية التي لا تزال قائمة بين لغة نقرأ,, ونكتب,, ونؤلف,, ونحاضر بها، وبين لغة نتحادث,, ونتشاجر,, ونداعب اطفالنا,, ونغني,, ونروي النكات بها. بين لغة نتكلمها في البيت، وفي الشارع، وفي المقهى,, ولغة نقرؤها في الكتب ونسمعها على منابر الخطابة، ونقدم بها امتحاناتنا. يقول نزار: وكان الحل لهذه الاشكالية طبعاً هو اعتماد لغة ثالثة تأخذ من اللغة الأكاديمية منطقها، وحكمتها، ورصانتها، ومن اللغة العامية حرارتها، وشجاعتها، وفتوحاتها الجريئة انتهى. *** وفي العدد 1524 الصادر في 6 جمادى الآخرة 1419ه من مجلة اليمامة وفي مقابلة مع الدكتور صالح الزهراني عضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى يقول الدكتور صالح: الشعر رؤية,, عبقريته تكمن في تشكيله اللغوي لا في مضامينه، قد نختلف مع المضامين ولكن يظل الشعر الذي يحملها شعراً,, فالشعر تشكيل لغوي وليس مضموناً نبيلاً,, انتهى. *** من مثل هذه الطروحات، ومن تجربتي الخاصة مع القصيدة,, ومن خلال متابعتي لحركة الشعر السعودي على الأقل الذي بدأ عامياً قبل انتشار التعليم على أيام ابن لعبون، والقاضي، وحميدان الشويعر، وبركات الشريف وأضرابهم، ثم تحول إلى القصيدة العمودية التقليدية الفصيحة، ثم الى قصيدة الشعر الحُر التي حافظت على الايقاع وعلى اللغة الفصيحة وعلى التفعيلة,, ولكنها لم تحافظ على الشكل التقليدي التناظري المتمثل في أوزان وبحور الشعر التي تنسب إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، ثم إلى قصيدة النثر التي تفلتت من كل القيود,, وأخيراً عاد من حيث بدأ إلى القصيدة العامية التي تطغى موجتها هذه الأيام على ساحة الشعر المحلية. أقول: من خلال هذا الرصد,, وهذه المتابعة لتلك المراحل,, توصلت إلى قناعة,, قد تكون صحيحة,, وقد تكون خاطئة، لأنها لا تزال مثار نقاش,, واختلاف,, وجدل، وهي: ان للشعر لغة خاصة,, ليست العربية الفصحى,, وليست العربية العامية,, وليست الانجليزية,, ولا الفرنسية,, ولا الفارسية,, ولا الأوردية,, ولا الملاوية,, ولا الهندية السنسكرتية ولا أية لغة أو لهجة أخرى في العالم,, إذن ما هي تلك اللغة,,؟! إنها لغة الشعر,, وحسب,,! تلك اللغة التي لا يحسنها إلا الشعراء,. تلك اللغة المشتركة بين شعراء العالم، بمختلف اجناسهم، وجنسياتهم، ولهجاتهم. إنها اللغة التي اذا امتلك ناصيتها الشاعر، وبنى نصوصه من قاموسها، توهجت عطاءاته بالابداع، واتفق على شاعريته,, سواء كان عربياً أم أعجمياً,, متعلماً أم عامياً,,!! إنها اللغة التي تجعل من مستخدم يحمل أباريق الشاي والقهوة في الجامعة شاعراً لا يشق له غبار,, بينما تجعل أستاذاً في اللغة العربية وعلومها يقف عاجزاً عن كتابة بيت مستقيم واحد، لأنه لا يمتلك ناصيتها. ,, لغة تشبه شقشقة العصافير,, وحفيف الأشجار,, وتلاطم الأمواج,, ولمعان البرق وتوقيعات المطر. *** تلك اللغة قد يقع على مخزونها شاعر عامي ربما لا يعرف أبجديات اللغة العربية، فيقف بكل شموخ أمام صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، بعد عودة سموه الكريم من رحلته العلاجية سليماً معافى إلى أرض الوطن، ويكتسح كل الشعراء الذين وقفوا الموقف نفسه، وهو يرحب بمقدم سموه ويقول: والله,, إني لا شعل الحرف وارقى به لين احطه تاج راسي,, وأماري به القصيد,, ان ما اعجبك ويش يبغى به لعنبوه,, ان ما اعجبك عقب ها الغيبة الشعر خلَّد مع الوقت كتابه وكل شاعر يرفعه قوَّ أساليبه سلم راسك يا ستر نجد وثيابه لو تعرَّى الشعب تستر عذاريبه إن ذكرت المجد,, سلطان عيابه ما خذه من دون شك ولا ريبه وان ذكرت العز,, سلطان عدَّا به اعتلا به فوق عالي مراقيبه بكَّر الوسمي مطر,, ما فرحنا به الفرح لا جيت,, والعشب تمشي به *** والقصيدة جميلة وطويلة وهي للشاعر الشعبي/ عبيد الأزمع من محافظة رماح من سبيع بدليل قوله في أحد أبيات القصيدة: جيت باسم سبيع ورماح واللابه حملوني لك سلام وعاني به *** بينما قد يأتي أحد الشعراء اللامعين والكبار والبارزين في ساحة الشعر والأدب,, لكنك حينما تراجع نصوصه تجد أنها تفتقد مفردات تلك اللغة الخاصة بالشعر الذي يفرض نفسه على الذائقة السليمة. وعلى سبيل المثال فقد دارت قبل عشر سنوات رحى حرب كلامية على أعمدة بعض الصحف المحلية حول شاعرية العواد، وذلك بعدما قلَّل الشاعر/ يحيى حسن توفيق من شأن شاعرية الأديب الكبير. وقرأت من بين الردود عليه هجوماً عنيفاً في جريدة المدينة وفي جريدة الندوة وفي جريدة الرياض بأقلام/ أبي تراب الظاهري، ومحمد مليباري، وسعد الحميدين، وغيرهم. وكل الردود كانت تهاجم/ يحيى توفيق وتدافع عن/ العواد وتؤكد شاعريته. وفي الواقع أنهم لم يكونوا يدافعون عن شاعرية الرجل,, وانما كانوا يدافعون عن اسمه وتاريخه الأدبي. اكتشفت ذلك بعد أن رجعت إلى قصائد الأستاذ/ محمد حسن عواد، ووجدته يقول على سبيل المثال في قصيدة له بعنوان جنون العاشقين : العقل فوق الحس انك قلت ذاك فأين ذاك,,؟! بالله عليكم ماذا تفهمون من هذا المقطع؟! أنا لا أفهم شيئاً,، وأين لغة الشعر في مثل هذه الجملة العقل فوق الحس ؟! ثم يواصل ويقول: دعني وقم بالواجب الوطني وابتدر العراك وابعث خواطرك الصريحة تخترق حُجُب السكوت وادع البلاد الى الحياة. وفي مقطع آخر من القصيدة يقول: فطفقت ارتبط الخواطر للتأمل والكتابة وأهبت بالقلم العتيد أسيل معتسفاً لعابه ورسمت للوطن العزيز نماذج من صورته. ثم يختم نصه مخاطباً الوطن بهذا الختام: ودِّع حياة السادرين فإنها فصمت عُراك واستقبل العهد الجديد فانه يُعلي ذُراك عهد الحقائق والتعاون بعد تفكير صحيح ,, إنها جمل ومفردات أبعد ما تكون عن روح الشعر وجمالياته, وبعد جولة في قصائد العواد أتذكر انني دخلت طرفاً في المعركة واقفاً الى جانب الشاعر يحيى توفيق ضد المدافعين عن شاعرية العواد وذلك بمقالة تحت عنوان بعد هدوء العاصفة نشرت في جريدة الرياض وقلت فيها: إن هذا الرأي في شاعريته ليس جديداً فقد أطلقه الأستاذ الناقد/ عبدالله عبدالجبارقبل ثلاثين سنة من تاريخ تلك المعركة وقبل أربعين سنة من الآن في كتابه التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية حيث يقول عنه ما نصه: إن العواد في شعره قد يعمق تفكيره,, وقد يخلط في أشعاره بين خواطره الذهنية وتهويماته الرومانسية,, ولكن شيئاً مهماً نفتقده في شعره,, هذا الشيء هو وهج الشعر، وجمال موسيقاه,, وهو الكهرباء التي تهزنا انتهى. وإنني على يقين بأن وهج الشعر وجمال موسيقاه والكهرباء التي تهزنا حين نسمعه أو نقرؤه يتمثل فيما أتحدث عنه الليلة وهو اللغة الخاصة. *** ولعل من الشعراء الذين لفتوا نظري ووجدت قصائدهم ثرية بهذه اللغة الخاصة الشاعر البائس/ حمد الحجي يرحمه الله. هذا الشاعر كتبت عنه مرتين,, مرة عندما اصدر الأستاذ/ محمد بن أحمد الشدي ديوانه عذاب السنين والمرة الثانية بعد وفاته. يقول الحجي عن ديوانه: راجعت ديواني فلم ألق في أوراقه,, إلا أغاني حزين قرأته,, فارتعت من بؤس مَن سطره بين الأسى والأنين من قائل الشعر,, ومن ذا الذي أيامه,, نَوح، ودمع سخين هذا أنا,, قد هدَّ جسمي الأسى والقلب باك من عذاب السنين ويقول في احدى قصائده الشهيرة: أأبقى على مرِّ الجديد في جوى ويسعد أقوامٌ,, وهم نظرائي إنه احتجاج صارخ يرفعه/ حمد وبقوة الشعراء في لحظات الصدق والتجلي. وبعد تساؤلات عديدة عن السبب الذي يقف خلف شقائه وسعادة نظرائه يصدمنا بالإجابة المتوقعة: لقد نظروا في الكون نظرة عابر يمرُّ على الأشياء,, دون عناء وأصبحت في هذي الحياة مفكراً فجانبت فيها لذتي,, وهنائي وإذا أردت أن تعرف شيئاً أكثر عن تفرد الرجل فاقرأ بيته الشهير: وإذا اُعجب الأنام بشيء بت منه في موقف المرتاب هذا البيت من قصيدته خلف المنظار الأسود التي اعتبرها رغم روحها التشاؤمية، من أجمل وأصدق القصائد التي قالها شعراء نجد المعاصرون ، وغير المعاصرين. وفي مقطوعة قصيرة له بعنوان دمعة على الصغير يقول: وصليت العشاء على صبي قد اختار الإله له ارتياحا أقول له: ودمعي فوق خدي كمثل السيل في ردني ساحا هنيئاً بالردى وافى مساءً فإنك داخلٌ عدنا صباحا كفني يا شمس مني هيكلا كفنيه هيكلاً محترقا وهو القائل: وادفنيه جانب النهر,, فقد يتلقى الصبح غصنا مورقا يا حياتي ما الذي فيك يُرى يُبهج النفس,, ويغري بالبقا سوف أطوي صفحة العمر فما استطيع العيش عبداً موثقا وسأغفو يا نداماي,, فإن طلع الفجرُ,, فحيوا المشرقا وانفخوا في جدثي من روحه واغرسوا فوق ثراي الزنبقا *** وعن غربته يقول: ما في وجود الناس من شيء به يرضي فؤادي أو يُسرُ ضميري فإذا استمعت حديثهم ألفيته غثاً,, يفيض بركَّة,, وفتور وإذا حضرت جموعهم,, ألفيتني ما بينهم كالبلبل المأسور *** وعن نظرته التشاؤمية يقول: إن نظرت الجمال غضاً طريا يتجلى في المنظر الخلاب لاح لي أسود المصير (م) كمسود الليالي، مكشر الأنياب إن تغنَّت حمامة ملتُ عنها ثم أرهفت مسمعي للغراب لا أرى في الهضاب إلا وحوشاً أين مني ما يزدهي في الهضاب أيضاً هذه اللغة وجدتها وافرة ومتوهجة في مجموعة اصدرها الشاعر السعودي/ محمد الثبيتي هذا الشاعر الذي اشتعل بسرعة وانطفأ بسرعة، ورغم ذلك فإنني أتوقع ان أشعاره سوف يكتب لها الخلود كأحد أبرز شعراء الساحة المحلية في مرحلتنا الراهنة,, على حد قول الشاعر القديم: يموت رديء الشعر من قبل أهله وجيده يبقى,, وان مات قائله عنوان مجموعة الثبيتي : التضاريس وقد ضمنها مجموعة نصوص مثل: المغني، التي يقول في مطلعها: ابتداء من الشيب حتى هديل الأباريق تسترسل اللغة الحجرية بيضاء كالقار,, نافرة كعروق الزجاجة ومثل: الصعلوك، والصدى، والفرس، والقرين، والمغني، والبابلي، والأجنة التي يشتعل أبو هوازن عندما يصل إلى منتصفها بطريقة مثيرة للاعجاب حين يقول مثلاً: قد كنت ابتاع الرقى للعاشقين بذي المجاز هذا الدم الحولي منصوب على تيماء من يلقي بوادي الجن شيئاً من نحاس من ذا يغني: لا مساس. ولعل أجمل قصائد المجموعة على الاطلاق قصيدته تغريبة القوافل والمطر التي يقول منها: أدر مهجة الصبح وأسفح على قُلل القوم قهوتك المرَّة المستطابة أدر مهجة الصبح ممزوجة باللظى وقلبِّ مواجعنا فوق جمر الغضا ثم: هات الربابة,, هات الربابة وبعد هذه الأوامر المتتالية من قائد الركب ربما لأحد أتباعه,, يركب الشاعر متن البحر الطويل الذي قد يوحي بطول الرحلة فيقول على لسان القائد: ألا ديمة زرقاء تكتظ بالدِّما فتجلو سواد الماء عن ساحل الظما وثم ينتقل إلى سرد تفاصيل الرحلة أو التغريبة التي تشبه إلى حد بعيد تغريبة بني هلال في دوافعها وأهدافها,, وذلك عندما يصل في كتابة النص إلى الحديث عن تلك المغامرة، يقول محمد على لسان القائد أيضاً: أسرت بنا العيس وانطفأت لغة المدلجين بوادي الغضا كم جلدنا متون الربى واجتمعنا على الماء ثم انقسمنا على الماء وفي نظري أن الشاعر يصل إلى قمة التعامل مع اللغة الشعرية، سواء على مستوى المفردة أو على مستوى الصورة حين يقول: إنا سلكنا الغمام وسالت بنا الأرض وإنا طرقنا النوى ووقفنا بسابع أبوابها,, خاشعين أرأيتم مشهداً أجمل من مشهد الراحلين حين يسلكون الغمام,, وتسيل بهم الأرض,, ويطرقون النوى إلى أن يقفوا بسابع أبوابها بحثاً عن وطن مطير؟! ان هذه الصورة تذكرني ببيت الشاعر العربي كثير عزة الذي يقول: ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ما سح وشدت على دهم المهارى رحالنا ولم ينظر الغادي لمن هو رائح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطيِّ الأباطح * أما عن قصيدة النثر فهناك من يحاول كتابتها من شعراء الجيل الجديد. ويشير الدكتور/ سعيد السريحي في مقاربته لنصوص العدد الأول من مجلة النص الجديد : الى أن قصيدة النثر تتكئ على مفاجأة الجملة الأخيرة من المقطع,, تلك المفاجأة التي من وجهة نظر الدكتور السريحي تكسر التوقع,,، وتشكل القطيعة الأخيرة مع النثر وعالمه. وهذا المبرر في نظري ليس كافياً لخروج هذا النوع من الكتابة من دائرة النثر الفني الى دائرة الشعر، رغم اللغة الشعرية الثرية التي تفيض في نصوص بعض مبدعيها. وقد سبق أن عقدت مقارنة بين نصوص لعدد من شعرائنا الشباب الذين يكتبون بهذا الشكل وبين نص من النثر الفني لأحد أصدقائي الكتاب ولم أجد فرقاً بين هذا النص وبين تلك النصوص، بل على العكس فقد وجدت تشابهاً كبيراً يجعل المتلقي يقف حائراً أمام مثل هذه النصوص اذ يصعب عليه التفريق بين النثر والشعر,, ولنقرأ جميعاً هذين المقطعين: 1 سمعت الصرخة قمت أبحث/ افتش اركان الغرفة/ لا شيء. تجتاحني الصرخة مرة أخرى / أفزُّ/ أنفض الأثاث/ لا شيء. أتمدد على السرير/ أفرد اطرافي/ أتنفس بعمق/ شيء ينغزني أنهض إلى المرآة/ أزيل غبشها/ أسوي ما هاش من شعري أنظر في عيني/ ترتخي الطمأنينة أحدِّق في فمي,, أحدق,, أحدق كان الطفل مشنوقاً/ والصرخة ممدودة إلى حافة الأفق, الشاعر عبدالله السفر . 2 صوب الدهشة المغلفة بحزازات الغبن,,أحبك أيها الحزن. وفي حدقات النار الموغلة في هشيمي أسقيك مرارات العبرة العاتية. هذا الوجد المضمخ بقصائدي الأولى وصبري,, وصبري. طفولتي الملقاة على نار الرجال/ وعزيمة تلعن الانكسار الكاتب محمد الدبيسي . ,, أي المقطعين ينتمي الى قصيدة النثر,؟! في اعتقادي أنه يصعب تحديد هوية كل منهما. ولعل المهم في الأمر أن من يمتلك ناصية تلك اللغة الخاصة التي يطلق عليها: اللغة الشعرية أو القاموس الشعري ويجيد توظيفها في بناء نصوصه سوف يتسلق شجرة الابداع، وسوف يخطف الأضواء، وسوف يعتلي فوق منصة الشاعرية رغم أنف الظروف المحيطة به، ومهما كان الشكل أو القالب الذي يصب فيه رحيقه، وسواء كتب نصوصه بلغة امرئ القيس، أو أدونيس، أو حميدان الشويعر.