بين معهد "أتلانتيك كاونسيل" في دراسة ركّزت على رؤية المملكة العربية السعودية "رؤية 2030" أن المؤشرات الاقتصادية العالمية تؤكد أن الطاقة والجهد والتمويل التي وضعت في الرؤية حقّقت إنجازات جديرة بالملاحظة من المجتمع الاقتصادي الدولي، في تطوير الأنظمة المصرفية ورقمنة الخدمات الحكومية والإصلاحات الاجتماعية التي بدأت تمهّد الطريق لظهور بيئات ومجالات مالية جديدة في المملكة. وتؤكّد دراسة المعهد أن الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الذي بدأه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، هو أمر يجمع على ضرورته كل اقتصادي وسياسي يعرف المملكة، حيث حوّلت الرؤية في غضون فترة قياسية المملكة من بلد يعتمد اقتصاده على النفط بشكل شبه كامل إلى سوق ناشئة قوية يزداد التفاؤل بها وتزداد إمكانية خلق فرص عمل متنوعة فيها في قطاعات جديدة لم تكن تجني المملكة عائدات كبيرة منها في الماضي. بدوره اعتبر المستثمر والاقتصادي الأميركي أنتوني سكاراموتشي، أنه من الاقتصاديين الأقل تشاؤماً بمستقبل النفط في الأمد القريب، ولكن رغم ذلك فإن الأزمات المؤثرة على الاقتصاد والتي يمر بها العالم تثبت منذ عقدين من الزمن أن النفط هو إحدى الضحايا في أي أزمة اقتصادية ما يجعل بلداً نفطياً سريع النمو مثل المملكة بأمس الحاجة لرؤية تبعده عن الاعتماد الكلي على النفط، وهي معضلة جاءت برؤية ولي العهد السعودي للعام 2030. وأضاف سكاراموتشي: "استثمار المملكة اليوم بالطاقة النظيفة وبناء مدن حديثة تعتمد على الطاقة النظيفة هو استثمار مبكّر في الفرص التي تشكّل نواة الثورة الجديدة التي سيشهدها العالم والتي لن تقل أهمية عن ثورة التكنولوجيا التي شهدناها قبل عقود". مردفاً: "الدول النفطية بحاجة ماسة للانتقال إلى عهد اقتصادي غير محصور بالنفط، وما يجري في المملكة اليوم تحتاجه كل دول منطقة الخليج العربي، ومن يتأخر عن الركب الذي تقوده المملكة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والبيئي سينظر بعد عشرة أو عشرين سنة إلى الوراء بندم كمن يندم اليوم من لم يقتنع بالثورة التكنولوجية وتجاهل الاستثمار بها قبل عشرين سنة". ويرى أن توجيهات الأمير محمد بن سلمان، وبغضون فترة قصيرة جداً جعلت المستثمر الأجنبي ينظر إلى المملكة بشكل مختلف تماماً، فالسوق في المملكة باتت اليوم على خارطة الاقتصادات الناشئة المؤهلة لتكون وجهة استثمارية مهمة، حيث أزالت رؤية 2030 الكثير من العقبات البيروقراطية والاجتماعية التي كانت تحول دون تفكير المستثمرين باقتحام السوق المملكة وهذا مؤشر إيجابي للغاية. وفي حديثه ل"الرياض" يقول سكاراموتشي: "انهيار أسعار النفط في صيف العام 2004 كان واحداً من المؤشرات على التحديات التي بدأت تتصاعد لتواجه القطاع النفطي، ورؤية 2030 كانت حاجة ملحة يجب أن تحدث في أسرع وقت ممكن لأن النفط لم ينته بل يمر حتى اليوم بلحظات قوة، ما يمكّن المملكة من الاستمرار بالاعتماد على النفط لتحفيز منابع مالية أخرى قد تحدث ثورات اقتصادية لا تقل أهمية عن ثورة النفط، أما الانتظار والتأخر والتسويف بحجة أن النفط لايزال قوياً فمن شأنه أن يجعل تقوية قطاعات جديدة أمر مستحيل إذا لم يكن هناك موارد للإنفاق على التحوّل الاقتصادي. وتعليقاً على مقابلة الأمير محمد بن سلمان، يقول سكاراموتشي: "ولي العهد يمتلك طاقة شبابية وحيوية وبراغماتية في التعامل مع المستجدّات بعيداً عن البيروقراطية والأدلجة التي أخّرت الكثير من المجتمعات والدول في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى شغفه الشخصي وفهمه الواسع بكيفية عمل الاقتصادي الدولي وأهم الابتكارات الحديثة التي هي بصدد الاستحواذ على أرباح المستقبل، ويوظّف قدرات المملكة الكبيرة للاستحواذ على المزيد من مكاسب الاقتصاد العالمي وزيادة حصة المملكة خاصة من مكاسب القطاعات التي لاتزال جديدة وفيها الكثير من الفرص الكامنة". سكاراموتشي ل"الرياض": خطط ولي العهد تضع المملكة على خارطة أقوى الدول الجاذبة للاستثمارات ويشير سكاراموتشي إلى أهمية إنفاق الدول النفطية منها وغير النفطية على البنى التحتية للاقتصاد وتحسين بيئة الاستثمار لأننا نعيش في عالم متغيّر جداً تصعد فيها بسرعة ابتكارات جديدة وتختفي أخرى قديمة، ولذلك نرى الولاياتالمتحدة اليوم مقبلة على عملية تحول جديدة نحو دعم البنى التحتية وتنشيط حركة التصنيع من خلال إنفاق هائل يقدّر بتريليوني دولار أميركي لكي تتمكن الولاياتالمتحدة من الريادة في ظل منافسة شرسة مع الصين، وبالتالي الإنفاق على خطط التحول الاقتصادي ليس بالأمر المخيف بل هو ما تفعله الدول التي تأمل بإحداث طفرات اقتصادية كبرى، وهناك دول لا تملك الموارد والتمويل أصلاً للتحول الاقتصادي، فنراها تلجأ إلى الاستدانة لتطوير اقتصادها لأن الإنفاق على التعليم والتدريب وبناء بيئة جاذبة للاستثمارات هو استثمار مضمون النتائج. وذكر سكاراموتشي أن معادلة الاقتصاد واضحة، فمن غير الممكن القيام بتحول إيجابي هائل وتاريخي دون تضحيات وعمل دؤوب، فمن الممكن أن تستمر المملكة باعتماد نظام ريعي بسيط يقدّم بعض الخدمات المجانية مع الاعتماد الكلي على النفط ولكن هذا لن يكون ممكناً بعد سنوات قليلة، فجودة الخدمات وإمكانية تغطية بلد ينمو بسرعة ستتناقص مع الزمن، وهذا ما حدث لدول كثيرة في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وغيرها. من جانب آخر، هناك النموذج الأوروبي وهو الأشبه بالنموذج السعودي الذي استفاد من الثورة الصناعية والاقتصادية والابتكار لخلق أسلوب حياة مريح للمواطنين، فالمواطن محدود الدخل في أوروبا وبعد أن تمكّن الاقتصاد الأوروبي من التفوّق عالمياً يتمتع بقانون فيه شيء من الريعية يساعد المواطن محدود الدخل والفقير بينما يدفع المواطن الثري نصيبه من الضريبة لكن في المقابل يستفيد من اقتصاد قوي ومتين ولا حدود للقدرة على الكسب فيه، والنموذج السعودي المعبّر عنه اليوم من خلال الرؤية 2030 يمتلك عدة فرص في عدة قطاعات ليكون تجربة عالمية رائدة تصب في نهاية المطاف في صالح المواطن محدود الدخل ولكن أيضاً في صالح الثري الذي ستزداد فرصه في الكسب. من ناحيته، قال برنارد هيكل، أستاذ "دراسات الشرق الأدنى" في جامعة برينستون: "مقابلة ولي العهد أجابت بشكل رائع على كل هموم وتساؤلات المواطن السعودي وكانت دليلاً جديداً يؤكد أن الرؤية نابعة من الحاجات الداخلية الملحة للمملكة". وخلال حديثه ل"الرياض" ذكر د. هيكل أن رؤية 2030 تحمل في سياقها حلولاً لمشكلات بدأت تشغل منطقة الخليج ودولاً مثل الإمارات والكويت والبحرين والمملكة منذ الستينات لتأتي رؤية 2030 بحلول واقعية ورؤى متماسكة هي الأبرز في منطقة الخليج. معتبراً المملكة والإمارات البلدين النفطيين الوحيدين في المنطقة اللذين مضيا حتى اليوم بخطط فعلية تمكّنهما من المضي إلى مستقبل مضمون اقتصادياً مهما كان مصير النفط في العقود القادمة. مبيناً هيكل أن رؤية 2030 أبلت بلاء حسناً في السنوات الأخيرة من خلال إحداث تغيير جذري يجعل الاقتصاد السعودي أكثر استعداداً للانفتاح على تنشيط موارد جديدة للدخل وتحويل المملكة إلى بيئة استثمارية جذابة، حيث نجحت الرؤية بإشراك العنصر الفاعل "النساء" بقوة وبنسب تاريخية في سوق العمل والإنتاجية السعودية، بالإضافة إلى مبادرات المحاسبة ومكافحة الفساد، وتنشيط قطاعات ثقافية واجتماعية من شأنها خلق فرص عمل جديدة. ويشير هيكل إلى تفاؤله في قدرة توجه رؤية 2030 في تحويل المملكة إلى مقصد سياحي عالمي مهم، سواء فيما يتعلّق بالسياحة الثقافية والدينية أو السياحة الترفيهية، بالإضافة إلى قدرة الإصلاحات القانونية الحالية على جذب المزيد من الاستثمارات الدولية. التنوع الاقتصادي يجنب دول الخليج تذبذب أسعار النفط ويحفز نمو القطاعات الأخرى وقال: "الإصلاحات القانونية تمكّنت من لفت أنظار المستثمر الأميركي إلى السوق السعودي كسوق ناشئة جاذبة لرؤوس الأموال، وعلى الرغم من اهتمام المستثمر الأجنبي بقطاع البتروكيميائيات بسبب خبرة المملكة الكبيرة فيه، فإن هذا الاهتمام يعتبر بداية إيجابية وأحد آثار الإصلاحات الأخيرة التي تشعر المستثمر الأجنبي بالأمان". ولفت هيكل إلى أهمية سعي الرؤية على النهوض بطبقة العمال "الياقات الزرقاء" من خلال تدريب وبناء خبرات سعودية في مجالات لا تطلب شهادات جامعية بل خبرات مهنية وصناعية، حيث يساعد النهوض بطبقة عمال المصانع القطاع الصناعي السعودي على المدى الطويل بشكل كبير وهو من الأمور التي برعت فيها وعولت عليها دول تحوّلت إلى أهم اقتصادات العالم مثل ألمانيا. ويرى هيكل أن الرؤية تعزز المكانة الدولية المهمة للسعودية حيث تزيد من أهمية دور المملكة في قطاعات جديدة بالإضافة إلى أهميتها التقليدية، مشيراً إلى أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أدركت بسرعة أهمية تدارك أي توترات في العلاقة مع المملكة والحفاظ على الشراكة المهمة معها، فبدون التنسيق الأميركي - السعودي لن تتقدّم أي ملفات تهم الولاياتالمتحدة مثل مكافحة تغير المناخ، والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، والتوصل إلى صفقة تحد من قدرات إيران النووية.