بعد «القصيدة والرسم» (الخميس الأسبق) و»القصيدة والموسيقى» (الخميس الماضي)، أُقاربُ اليوم «القصيدة وتشكيل النظْم: التفعيلة»، وهي ركيزةُ الإِيقاع التي بدونها لا إِيقاع. كيف يَصدر عن التفعيلة توقيعٌ ميلودي؟ من متتاليات حركاتها: 3 متحركات ثم ساكن (مُتَفَاعِلُن)، أَو متحركان فساكن (مَفَاعلن)، أَو متحرك فساكن (مستفعلُن)، إِلى سائر تفعيلات يتشكَّل منها البيتُ ستًّا في شقَّين: لصدره وعَجُزِه معًا. التركيب لا يحتمل أَربَعًا في كل شقّ (ثماني للبيت الكامل) ولا أَكثر طبعًا، كي لا يَثْقُلَ البيتُ بالحشو فيَغْلُظَ فهمًا أَو جماليًّا. ما الذي جرى في ما يجده البعض «تجديدًا» و»حداثة»؟ هرع الشعراء إِلى القصيدة المدوَّرة على التفعيلة الواحدة تدور بها القصيدة لولبيًّا. تفلَّتوا من محدودية البيت (صَدرًا وعَجُزًا ورَويًّا وقافية موحَّدة) وانفلتوا على سجيَّتهم لا يحدُّ سطرَهم قياس، فاقتربوا من نثر منظوم تتحوَّل فيه القافية إِلى سجْعة (القافية للشعر والسجَع للنثر). وكما السجَع في النثر لا يُعتبَر قافية، وتاليًا لا يجعل النثيرةَ قصيدة (وهو ما يتوهَّمه مَن يكتب بيتًا خارج أَيِّ وزن أَو بحر ويختمه بسجَع ظنًّا أَنْ به يَعتبرُ نصَّه «قصيدة»)، لا تتَّخذ القصيدة مهابتها الجلَّى إِلَّا بالعمود الشعري الذي لا يأْتيه إِلّا متمكّنون، حتى لو نظموا قصيدة التفعيلة، يتقنونها بتقْنية العمودية. هنا أَمران كلاهما ذو خطر: أَوَّلُهما أَنَّ التفعيلة السلسة الرخوة تُغري بالسُهولة وتُغوي بالاستسهال، ينقاد إِليها الشاعر غيرَ محدَّدٍ بقياس صارم، فيروح يتدفَّق بثًّا يقارب الثرثرة والحشو، دون رادع يَلجُم انهمارَ كلماته مدوَّرةً على نغَمية التفعلية وهَدهَدتِها فيَقع في الوهن الشعري. الأَمر الآخر أَنَّ مَن يقارب العمود الشعري وليس متمكِّنًا، يكتفي بالتشطير العروضي والتقطيع المسطَّح لكنه، إِذ يكتفي ب»إِنجازه» تطبيقَ البحر وتفعيلاته ومفاعيله ببَّغاويًّا دون التزامٍ بمبدإ «الأَكثرُ تكثيفًا أَجملُ إِشراقًا»، يقع في نظْمٍ أَجوف لا يرتقي بصاحبه إِلى الشعر. إِذًا: الشعر، هذا الحصانُ المَهيب المُهاب الهيَّاب، لا يقاربه إِلَّا فارسٌ يطوِّعه للصعب الأَجمل في التزامٍ قاسٍ بالنَظْم والنُظُم والانتظام. والفن العالي يغتذي من الصعوبة في التكثيف فيعيش طويلًا، فإِذا اغتذى من الاستسهال ذوَى إِلى النسيان، تمامًا كلوحةٍ لا يؤَسس قماشتَها الرسامُ بزيت خاص قبل وضع الأَلوان عليها فتتشقَّق بعد سنوات. هكذا القصيدة المصابة بجرثومة النَظْم، تموت في زمانها دون بلوغها حَرَم الشعر. عظمةُ الكلاسيكية أَنها، بالدأْب والنحت، تولَد يومًا في زمنها وتخلُد إِلى كل زمن، لأَن تأْليفها الصعب يؤَمِّن سهولة بقائها الدائم، ترصيعًا وتلميعًا وتنويعًا، ككُل عمَلٍ إِبداعيٍّ خالد في التاريخ.