بعد ستة أَسابيع من اليوم (الخميس 10 ديسمبر المقبل)، تقف الشاعرة الأميركية لويز غْلِكْ في ستوكهولم، تتسلَّم جائزة نوبل للأدب، منحَتْها إياها الأكاديميا السويدية لهذا العام، على "صوتها الشعري المتميِّز الذي، بجمالياته البسيطة، يحوّل الحضور الفردي كونيًّا". باردًا كان، في الأوساط المعنيَّة، استقبالُ خبر فوزها. البعض رأى إليه "صادمًا"، والبعض الآخر "مفاجئًا" عوَض أسماء أخرى كانت مرشَّحة أو "مهيَّأَة" أو "مستحقَّة". لا أناقش، هنا، قرار الأكاديميا ولا معايير اختيارها. وبين "الفائزة" و"الشاعرة" أتناول الأخيرة. العلاقة، في النهاية، تكون مع النص الجدير (أو غير الجدير) بالبقاء على الزمن. لدى صدور الخبر قرأتُ بعض نصوصها، بإنكليزيتها "البسيطة" لعلّي أكتشف "الجماليا" فيها، فرأيتُ بساطة أقرب إلى اليومي النثري منه إلى الشعري "المشغول". وهذه النصوص عاينتُ أمثالها قبل سنوات، فترةَ كنتُ أُدرِّس في بعض جامعات الولاياتالمتحدة، وأختلفُ إلى لقاءات شعرية مصغيًا إلى أميركيين يقرؤون "قصائد" لا تعدو كونها، في أغلبها الأقصى، كلامًا عاديًا يقوله أيُّ إنسان، أو يكتبه أيُّ محرر عاديّ في جريدة. ولمستُ فترتَذَاك كيف الشعرُ الأميركي المعاصر لم يعُد "مشغولًا" بل ينحو إلى كونه كلامًا منسرحًا لا قواعد تضبطه ولا نُظُم. في أحد أحاديث غْلِك، إثر نيلها الجائزة، قالت: "أَنا أُحب الوزن إنما أُفضِّل الإيقاع خفيًّا داخليًّا، فالتركيب الشعري يتكامل في إيقاع موسيقي خفيّ يوَلّد التأثير الشعري". وراء هذا "التبرير" خفّةٌ في التعامُل مع الفن الشعري القائم على أُصولٍ ونُظُمٍ لصعوبتها يهرب منها القاصرون إلى ابتداع أعذار باسم "الحداثة" و"الإيقاع الداخلي" ورفْض الْتزام الوزن أو اعتماد التقفية. هذه الظاهرة الأميركية أسس لها الشاعر وُولت ويتْمان (1819-1892) بما سمَّاه "الشعر المنثور" و"التخلّي عن الوزن والقافية إلى التعبير المُرسَل كيفما جاء". وانتشرت الموجة وأصدرت الشاعرة هارييت مونرو (1860-1936) مجلة "شعر" (شيكاغو - 1912)، وراج الشعر "المنثور" كتابةً منسرحة باسم الشعر، عاديةً باسم الحداثة، سهلةً باسم رفْض القديم. ووصلَت مفاعيله إلى العالم العربي، فأسس يوسف الخال مجلة "شعر" (بيروت - 1957) مطابِقَةً، شكلًا ومضمونًا، رديفتها الأميركية، وانفلتت بين الشعراء العرب موجة "الشعر الحديث"، ومازالت حتى اليوم دُرْجَةَ مَن لا يمتلكون أسس النُظُم ف"يبتدعون" حجَج "الإيقاع الداخلي" و"الكتابة غير المشغولة"، بما يرفضه حتى النثر في أدنى مستوياته. تلك الكتابةُ الرخوة إهانةٌ لا للشعر وحده بل للنثر فنًّا عاليًا لا يقلُّ صعوبة عن الشعر. أمّا الحديث عن الشعر والنثر وما بينهما، فأتركُه إلى مقال الخميس المقبل.