كنت أقرأ في كتاب (قصة حياتي العجيبة) لهيلين كيلر تلك الأديبة العظيمة والمعجزة البشرية الفريدة التي فقدت نعمتي السمع والبصر بعد عام وتسعة أشهر من ولادتها، ودخلت في عالم الغموض المبكر الذي حال بينها وبين المعرفة والفهم والتعبير، لتعيش حتى السابعة من عمرها لا تعرف وسيلة للتعبير أكبر من الشد والدفع بيديها الصغيرتين أو القفز والانفعال تعبيراً عما تريد وما لا تريد. الكتاب يستحق القراءة والقصة تستحق الاطلاع والمرأة جديرة بأن يخلد اسمها كمثال حقيقي لاثبات أن البصيرة أهم من البصر وأن العقل أكبر قدرات من أن يكون أسيراً للحواس. ليس هذا ما أود الحديث عنه تحديداً لكن ما شدني وأشعرني بالمفاجأة حقاً هو حديثها عن بداية التعليم وكيف استطاعت أن تدخل إلى عالم المعرفة والفهم من خلال تعلم الكلمات فقط! .. نعم الكلمات.. نحن لا نشعر بأهمية الكلمة في الفهم أو الإدراك لأننا في الحقيقة نتعلم الكلمة في المدارس بعد أن نعرف معناها مسبقاً ونتعايش معها وهنا لا يكون للعقل دور في التعامل معها برغبة الإدراك بل لمجرد كتابتها.. تتبين هذه الحقيقة حين تقرأ كلمة لا تعرف معناها فتذهب للبحث حولها وعنها وتكتشف أنك تتجاوز فهم المعنى إلى الوصول لمرحلة الإدراك والفهم وهي مرحلة متقدمة يفتقد الإنسان الوصول إليها عبر مئات الكلمات التي سبق معرفته بها رغبة الفهم والإدراك! الله سبحانه وتعالى حين أخبر الملائكة تميز المخلوق الجديد (الإنسان) عن سائر المخلوقات كان السر في ذلك التميز يعود إلى «وعلم آدم الأسماء كلها».. السر في تلك الكلمات التي تعلمها بالإدراك والفهم الذي وهبه الله له. حين قرأت هذا الكلام لهيلين كيلر «فنحن نتقدم بالتدريج من مجرد معرفة أسماء الأشياء إلى فهم الأفكار العميقة التي يشتمل عليها بيت من شعر شكسبير، وهذا في الواقع تقدم كبير للغاية!». شعرت فعلاً بأهمية الكلمة (الاسم) في الفهم والإدراك. استوقفني حديث هيلين كيلر عن محاولة فهم كلمة (حب) هذه الكلمة التي نستخدمها ونتبادلها ونعبّر بها عن أهم المشاعر الإنسانية لن أذكر ما قالت لأن قراءته في السياق سيكون أكثر تأثيراً، لكني شعرت بقيمة الكلمة في حياتنا وفي عمل العقل البشري. أخيراً تحية عظيمة لذلك الرجل العبقري برايل الذي واجه صعوبة التعلم بوصفه أعمى ليقدم للبشرية أحد أهم وسائل التعليم للملايين من البشر الذين فقدوا نعمة البصر، والذين كان أحدهم المعجزة هيلين كيلر التي تعلمت عبر تلك الطريقة لتكتب لنا أعمالاً لم تكن لترى النور لولا برايل وطريقته. في كتاب (لو أبصرت ثلاثة أيام) للمرأة المعجزة هيلين كيلر ذكرت أنها لو تمكنت من الإبصار لمدة ثلاثة أيام بعدها يسلب منها النظر مرة أخرى فانها ستقسم الأيام كالتالي: اليوم الأول: «رؤية هؤلاء الناس الذين جعلوا من حياتي شيئاً يستحق الذكر بفضل عطفهم ولطفهم وإخلاصهم» وذكرت أشخاصاً.. ثم بينت طريقة تلك الرؤية وأنها لا تريدها مشاهدة عابرة بل تريد أن تتمكن بها من معرفة أدق التفاصيل لتلك الملامح ثم سألت سؤالاً عجيباً أنقله لكم: «هل تستطيعون أن تصفوا بدقة وجوه خمسة من الأصدقاء الذين تعرفونهم جيداً!؟».. وتحدثت عن لون العين تحديداً. أترك لكم اختبار ذاكرتكم. ثم تحدثت عن رغبتها في جولة في الغابة لتملأ بنظرها ذاكرتها بجمال الطبيعة لتستوعب كما ذكرت «هذا البهاء العظيم الذي يعرض نفسه باستمرار على أولئك الذين يتوفرون على حاسة النظر»! وتحدثت عن الحيوانات والخيول تحديداً.. في الليل ذكرت أنها تريد الاستمتاع بالمشاهدة عبر الضوء الصناعي الذي أبدعته عبقرية الإنسان «ليمدد في أمد الضوء حين يحين وقت الظلام»! وذكرت أنها لن تستطيع بالطبع النوم في الليلة الأولى لأن «ذكريات الساعات الماضية ستزدحم على مخيلتي».. ثم ذكرت أنها تريد أن تكتشف تاريخ هذا العالم وتشاهد ماضي الأزمان والتحولات، وكيف وصلنا إلى ما نحن فيه ولن تستطيع فعل ذلك إلا بزيارة المتاحف طبعاً.. ومشاهدة الحيوانات التي انقرضت وجميع العدد والأدوات التي استخدمها الإنسان من أجل أن يجد لنفسه حياة آمنة على ظهر هذا الكوكب. عليكم قراءة كتاب (لو أبصرت ثلاثة أيام) لما يمنحكم رؤية نعمة البصر من خلاله، وكذلك القراءة عن تلك المرأة المعجزة هيلين كيلر التي قدر لها أن تُصاب بالعمى لتكون مثالاً حياً على قدرة الإنسان على التحدي ولتنتج للعالم أدباً فريداً وتقدم نفسها كواحدة من أعظم الأدباء في عصرنا الحديث. هيلين كيلر