} على أثر نشر ملحق "مجتمع" موضوع 20 امرأة في الف عام، 4 الجاري، ارتأى الباحث غسان غصن التوسع في التطرق الى إحدى شخصيات الألفية المنصرمة، هيلين كيلر. إدّعى المتنبي يوماً أن أدبه "يفتح" عينَيّ الأعمى، وكلماته تُسمِع "مَن به صَمَمُ". لكنَّ ثمة صمّاء، عمياء، خرساء حققت تلك "الأعجوبة"... معكوسة! فقد رأت وقرأت، وسمعت وأصغت، ونطقت وكتبت، لا بعينيها اللتين انطفأتا، ولا بأذنَيْها اللتين سُدّتا، ولا بلسانها الذي انعقد وانحبس، وإنما بقلبها وروحها وعقلها وبصيرتها. إنها هيلين كيلر Keller التي - كما قال أبو البصيرة - "بالعمى تَغنى ويفتقرُ البشر". في عام 1998، الذكرى السنوية الثلاثين لرحيل هيلين كيلر، صدر عن دار النشر الأميركية "كْنُوف" Knopf كتاب من نحو أربعمئة صفحة يزعم الناشر أن مؤلفته، دوروثي هيرمن، تذهب بقرّائها الى أعمق بكثير من الصورة العالقة في أذهان الناس عن تلك السيدة المذهلة، التي ظلت "ذاتيّتها الخاصة، حتى الآن، مغلَّفة بالأسطورة"، وكانت - بحسب تعبيره - "تُجَلُّ كقدِّيسة أو تُلعَن كدجّالة". تثير كاتبة السِّيَر دوروثي هيرمن موضوعات جدلية كثيرة، عبر تساؤلات استفزازية مثل: هل كانت معلمة هيلين الأولى ورفيقتها الدائمة لسنوات كثيرة، آني سوليفن، صاحبة الفضل في تحويل تلميذتها النجيبة الى أسطورة؟ أم انها كانت امرأة متسلّطة، ومضطربة عاطفياً، أدركت بذكاء حادّ أن "تحويل فتاة صمّاء - عمياء عادية الذكاء الى شابة تبدو متفوِّقة فوق العادة هو سبيلها أي سوليفن الى الشهرة والثروة؟ هل كانت سوليفن مجرد أداة للكشف عن "الألمعية" المخبّأة، أم انها هي نفسها كانت صاحبة العبقرية والشخصية الموهوبة والحساسة على نحو استثنائي؟ يقول ناشر الكتاب إن المؤلفة "تُخبرنا لماذا لم يُسمح لهيلين بالزواج، على رغم علاقاتها الرومنسية"، وكيف اضطرت طوال حياتها الى الاعتماد كلياً، في اتصالها مع العالم الخارجي، على الذين "يعرفون لغة الأصابع"، وكيف أن بعض هؤلاء كانوا يحسدونها، أو يتمسَّكون بالمفتاح الى عالمها. ويرى توماس فيلدس - ماير في مجلة People أن دوروثي هيرمن، التي استعملت مذكّرات لم يُسمح بنشرها من قبل، رسمت "صورة حميمية ومثيرة للمشاعر عن إحدى أكثر شخصيات القرن إلهاماً للآخرين". وتؤكد دينيتا سميث في النيويورك تايمز أن هذه السيرة، على الأرجح، هي الأكثر حميمية لحياة هيلين كيلر، التي قاربت علاقتها مع معلمتها - في بعض اللحظات - "الحدّة الجنسية". وتعتبر كاي دوشيك من جامعة آيوا أن المؤلفة تُدخلنا في الحياة العادية اليومية للرفيقتين المشهورتين، كيلر وسوليفن، لكن القصة ليست "دنيوية" على الاطلاق. فقد تخلّت آني سوليفن عن فكرة اهتمام الرجال بها، فيما كانت - عن إدراك أو عدم إدراك - تحوِّل هيلين كيلر من "مسخ... الى طفل عاجز، ممتن"، ومن ثم الى انسان "عالة كلياً عليها، لا يرغب قط في التحرر منها". وفي رأي دوشيك أن المسحات الباطنة شبه الجنسية ليست موجودة، "لكن الدوافع النفسية معروضة باستمرار". وتثني هذه الأستاذة الجامعية بحرارة على كاتبة السيرة، لإعطائها صورة رائعة موثّقة عن كيفية التأثير البالغ لذاك الثنائي النسائي في تكوين آراء المجتمع حيال المعوّقين - كما كتبت في مجلة "لايبراري جورنال". في العام الماضي، خصّصت مجلة تايم عددها الصادر في 14 حزيران ل"أبطال القرن العشرين ومعبوديه"، مختتمة به سلسلتها الخماسية عمَّن اختارتهم أكثر الناس نفوذاً في هذا القرن. وكتبت النبذة عن هيلين كيلر مغنية الجاز الكفيفة الذائعة الصيت دايان شور، بالتعاون مع دايفيد جاكسون. وجاء في المقال: "باللغة، أثبتت كيلر، الكفيفة والصمّاء، أنّ في استطاعتها الاتصال مع الآخرين في عالم الرؤية والصوت"، وأن "في قدرة الكلمات تحرير الكفيف والأصمّ". وذكَّرت شور قراء المجلة الواسعة الانتشار بأن كيلر كانت ميّالة الى اليسار - وتعتبر لينين أحد الأشخاص الثلاثة، الأكثر أهمية في القرن العشرين، الأمر الذي حمل رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، جاي. ادغار هوفر، على الاحتفاظ بملف عنها. وتقول شور في المقال "هيلين كيلر: الأعجوبة" إن كيلر "أقنعت المكفوفين بأن لديهم الحرية والامكان كي يكونوا مذهلين مثل المبصرين"، مضيفة أن كيلر "كانت نجمتنا الأولى، وأنا ممتنة جداً لها". البصيرة أبقى من نور البصر في حزيران يونيو وُلدت، وفيه تُوفيت 27/6/1880 - 1/6/1968. في شهرها التاسع عشر، ارتفعت حرارتها فجأة، وغابت عن الوعي، وتقدِّر دوروثي هيرمن أن كيلر أصيبت بالحمّى القرمزية، أو التهاب السحايا مناجيت. وأدى ذلك الى فقدان البصر، ولاحقاً الى القضاء كلياً على السمع، ومن ثم الى حرمانها النطق - ولو أن الصوت لم يختف تماماً. وبناء على نصيحة استاذ الفيزيولوجيا الصوتية في جامعة بوسطن، المسمى لاحقاً أبا الهاتف، الكساندر غراهم بل Bell، أمَّن لها والداها من مدرسة للمكفوفين في تلك المدينة 1887 معلمة ومدرِّبة، هي السيدة آن مانسفيلد سوليفن. كانت "مس سوليفن"، أو "آني"، تضغط برموز أحرف الهجاء على كفّ هيلين لتعلِّمها أسماء الأشياء. وفي خلال عامين فقط، صارت الفتاة الصغيرة تقرأ وتكتب بأسلوب "براي"، الذي طوّره الفرنسي براي 4/1/1809 - 6/1/1852 وهو في عامه الخامس عشر. لكن كيلر لم تكن قبل تلك الفترة، وفي أثنائها، طفلة هادئة، مهذبة، صبورة. فقد اعترفت في كتبها ومحاضراتها بأنها كانت تحرِّك شفتيها بعصبية، وتومئ كالمتكلمين، من دون أي نتيجة، فتغضب كثيراً، وتروح تزعق وترفس الى أن تصاب بالإعياء. كانت "نافذة الصبر، متعطشة الى الكلمات"، وتعتقد أن "الكتابة" على كفِّها لن تكون قطّ بمثل السرعة التي يقرأ فيها الناس الكلمات بعيونهم. في عامها الثالث عشر اشتركت مع أستاذها الكساندر بل في وضع الأساس لمبنى جديد يضم مختبرات لتعليم الصمّ. وفي عامها الرابع والعشرين 1904، تخرّجت بامتياز في كلية رادكليف، حيث كانت سوليفن تهجِّئ لها المحاضرات على راحة يدها. وقبل ذلك بعام واحد، صدر لهيلين كيلر كتاب "قصة حياتي"، الذي أطلقها الى عالم الشهرة الدولية. وتقول: "الأدب هو مدينتي الفاضلة UTOPIA، فأنا هنا غير محرومة من أي حقٍّ شرعي أو امتياز". ثمة جانب من حياة كيلر يثير الجدل والخلاف، أَلا وهو تجوالها مع سوليفن طوال أربع سنوات، بدءاً من عام 1919، للقيام باستعراضات للموهبة والبراعة على المسارح الشعبية المسماة "فودفيل". وربما شجعها على مثل هذا العمل ظهورها في فيلم سينمائي عام 1918، عن التحرُّر من "الصمت والظلمة"، قامت فيه بدور... هيلين كيلر. وقد صُدم الكثير من أصدقائها بسبب إقدامها على تلك الاستعراضات "الشعبية"، و"مسرحة" حياتها، لكنها هي نفسها لم تشعر أن في تلك الجولات، المفيدة اقتصادياً، ما يحطُّ من قدرها. فقد كانت رسالتها أن المكفوفين ليسوا مختلفين عن الآخرين، بل هم قادرون على العيش حياة مكتملة كأي انسان مبصر. "ولا بأس في أن نكون على حقيقتنا". وتذكر نجمة الجاز العمياء، التي تقدِّر قيمة تجاوُب الجمهور وتفاعُله، وخصوصاً مع المحروم نعمة البصر، أن كيلر - المحرومة أيضاً نعمة السمع والنطق، كانت تحب جمهورها... و"تعشق المدّ الدافئ للحياة البشرية، النابض حولها". بين النِّعَم الثلاث التي حُرمت منها هيلين كيلر، منذ طفولتها، كان صممُها الأصعب عليها. ولها في هذه المسألة قول مأثور: "مشكلات الصمم أعمق من مشكلات العمى وأكثر تعقيداً، وإن لم تكن أكثر أهمية. فالصمم بليّة أسوأ بكثير من العمى، لأنه يعني فقدان الدافع الأكثر حيوية - جرس الصوت أو الحس - الذي يأتي باللغة، ويوقظ الأفكار، ويبقينا في الصحبة الفكرية للانسان". ومع أن كيلر تعلّمت النطق - عبر وضع أصابعها على حنجرة معلِّمتها، و"سماعها" الارتجاجات الصوتية - فإنها ظلت دائماً في حاجة ماسّة الى "مترجمة"، لأن صوتها، على العموم، كان غير مفهوم. في عام 1936، توفيت معلمة كيلر ومترجمتها ورفيقتها الدائمة، آن سوليفن، التي "ساعدتني وأثْرَت سعادتي" طوال نصف قرن. "وعلى رغم الألم الشديد، والصعوبة البالغة في تجاوز الوحدة الممزقة للقلب التي تعقبتني كل لحظة"، فإن الانجاز الأعظم لهيلين كيلر تحقق بعد وفاة رفيقتها وحاميتها. إذ واجهت أفدح أزمة في حياتها "بقدر مذهل من الشجاعة والجَلَد"، كما تقول كاتبة سيرتها، وألَّفت بعد وفاة "المعلِّمة" ثلاثة كتب، وكتبت عشرات المقالات. وأظهرت في كتاب "يوميات كيلر" 1938 مستوى أدبياً جيداً. وتقول دوروثي هيرمن إن سوليفن ردّت بوفاتها على منتقديها، إذ مكَّنت هيلين من القدرة على العمل حتى في غياب المعلمة. والمأثرة الكبرى لسوليفن أنها "لم تخلق قط امرأة عاجزة، عالة، وإنما امرأة مُجدَّة، جهيدة، مرنة كانت أكثر من قادرة على مواجهة آلام الحياة وخسائرها". كيلر... في لبنان خصّصت هيلين كيلر جانباً كبيراً من حياتها العامة لمساعدة الصمّ والمكفوفين ، وقامت بجولات كثيرة في مختلف أنحاء العالم دعماً للاهتمام بالمحرومين مثلها نعمتَيّ السمع والبصر. وفي خلال إعدادي قصة الجامعة اللبنانية الأميركية LAU لمجلة "أرامكو وورلد"، وجدتُ خبراً في مجلة الخرِّيجين لعام 1952 بعنوان "هيلين كيلر تستحوذ على قلوب الجميع". صبيحة التاسع والعشرين من نيسان ابريل 1952، وقفت ابنة الثانية والسبعين - مع مترجمتها ورفيقتها الثانية بولي تومسون - في قاعة الاجتماعات، "فأسَرَت على الفور" قلوب المئات من الطالبات وأفراد الهيئة التعليمية في كلية بيروت للبنات الذين احتشدوا لسماع ما "تقوله" سيدة عظيمة انتصرت على الإعاقة الثلاثية. وكانت كيلير تتلقى أسئلة الطالبات عبر قراءة شفتَيّ المترجمة باللمس، وتردّ عليها بصوت "مس تومسون". وفي أثناء ذلك، كانت الدموع غزيرة والغُصص كثيرة، ليس إشفاقاً على امرأة لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم مثلهن، وإنما اعجاباً الى حد الذهول بمشاعر "الايمان والمحبة والشجاعة التي فاضت منها بسخاء". وقد منحتها الحكومة اللبنانية وسام الاستحقاق في احتفال خاص، أقيم في أحد فنادق بيروت. اشتراكية هيلين كيلر في عام 1901، بعثت كيلير برسالة الى أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، قالت فيها: "إنني مهتمة بالسياسة اهتماماً عميقاً. أحب أن تُقرأ لي الجرائد، وأحاول أن أفهم القضايا الكبرى الحالية". انتسبت كيلر الى الحزب الاشتراكي، الذي ترشح زعيمه يوجين دابس للرئاسة الاميركية خمس مرات بين عامي 1900 و1920. وانتقدت بشدة الخلاف الذي نشأ بين الاشتراكيين وحلفائهم في نقابة "عمال الصناعة في العالم"، وأدى الى فصل أحد القادة النقابيين من اللجنة التنفيذية للحزب. فكتبت في صحيفة "كول" الدعوة النيويوركية اليسارية: "قرأت بأشد لوعة تلك الهجمات على الرفيق هايوود"، ووصفت النزاع القائم "بين فئتين يجب أن تكونا واحدة" بأنه... "مُخزٍ"، وخصوصاً لأنه يجري في "فترة هي الأكثر حرجاً في كفاح الطبقة العاملة" استعملت كلمة "بروليتاريا". وتساءلت بغضب: "هل علينا أن نضع الاختلاف في الأساليب الحزبية قبل الحاجات اليائسة للعمال؟". وأضافت: "في حين يحطِّم عدد لا يُحصى من النساء والأولاد قلوبهم، ويدمِّرون أجسامهم في أيام طويلة من الكدح، فإن واحدنا يحارب الآخر. عيبٌ علينا!". تعاطفت كيلر "مع كل الذين يكافحون في سبيل العدالة"، ورأت أن الديموقراطية في الولاياتالمتحدة "ليست إلا مجرد اسم"، والانتخاب ليس سوى اختيار "بين هيئتين مستبدتين حقيقيتين، ولو أنهما غير مجاهِرتَيْن بهذاي الأمر". كما وصفت الحزبين الرئيسيين بأنهما "توأمان، أو شيئان متماثلان الى حدٍّ يتعذَّر معه التمييز بينهما". آمنت هيلين كيلر بالكفاح المتواصل ضد الظلم والاستغلال، وبأن كل كفاح هو انتصار. وخير مثال على ذلك هو ذاك التصدي القوي لصحيفة "إيغل" العُقاب ورئيس تحريرها. فبمجرد أن جهرت كيلر باشتراكيتها، نسيت هذه الصحيفة أنها كانت تعاملها كبطلة قومية، وهاجمتها بخبث ولؤم. فقد ذكرت أن "أخطاء" كيلر نابعة من "القيود الواضحة التي تحدُّ من قدرتها على النمو الفكري"، وهي إشارة وضيعة الى الاعاقة الثلاثية. قالت كيلر في مستهل ردِّها، الذي نشرته صحيفة "كول" بعد أن رفضته صحيفة "إيغل"، إن رئيس تحرير "العُقاب" نسي ثناءه الحار عليها قبل اعلان تأييدها للاشتراكية، ولجأ الى الغمز من قناة الاعاقة الجسدية. وأضافت: "آهٍ منك، يا "عُقاب" بروكلين السخيف! يا لك من طائر لا يعرف الشهامة!... تُدافع هذه الصحيفة العمياء والصمّاء اجتماعياً عن نظام لا يُحتمل، نظام هو المتسبِّب بالكثير من العمى والصمم الماديين، اللذين نحاول منعهما". وجاء في الفقرة الأخيرة من تلك الرسالة، التي أحدثت ضجة في الأوساط الاعلامية والفكرية على السواء: "الإيغل وأنا في حرب. أنا أكره النظام الذي تمثِّله... وإن كانت تريد الردّ على القتال بالقتال، فليكن قتالها منصفاً...! ليس قتالاً فُروسياً، ولا جدلاً إقناعياً، تذكيري وتذكير غيري بأنني عاجزة عن الرؤية أو السمع، ففي إمكاني أن أقرأ. في إمكاني أن أقرأ بالانكليزية والألمانية والفرنسية كلّ ما أجد له الوقت الكافي من الكتب الاشتراكية. ويا ليت رئيس تحرير الإيغل البروكلينية يقرأ بعضها، فلربما يصير أحكَمَ، وتصير جريدته أفضل. ولو أردت يوماً التبرع للحركة الاشتراكية بالكتاب الذي أحلم به أحياناً، فلسوف أعرف تماماً ما أسميه: العمى الصناعي والصمم الاجتماعي". أهذه هي الخرساء، الصمّاء، العمياء، ونحن المتكلمون، السامعون، المبصرون؟ ما أقلّهم، هؤلاء الذين أنعم الله عليهم بالبصيرة، وما أكثرهم، "أولئك الذين لعنهم الله فأصمَّهم وأعمى أبصارهم".