مرت تسعة وتسعون عاماً على وفاة العلامة الموسوعي، بل دائرة معارف عصره الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى -رحمه الله- الذي نقش اسمه في التاريخ وأصبح ذكره خالدًا عند العلماء والباحثين حينما نشرت آثاره من وثائق كتبها خلال مسيرته العلمية التي قضاها في خدمة العلم والمعرفة، بل إنه لم يشتغل في عمره الذي كتبه الله وهو ثلاثة وسبعون عامًا إلاّ بالعلم طلبًا وافتاءً وتدريساً وتأليفًا وكتابةً، وامتنع عن منصب القضاء تورعًا وإيثارًا لعالم المعرفة، فهو راهب في محراب العلم، ومنارة علم في عصره، فكان آية في التاريخ القديم والحديث وعالم من علماء الحنابلة في نجد، ومرجع ومصدر لعلم النسب، وخبير بالمخطوطات القديمة سواء بخطوط العلماء من أهل نجد أو خطوط علماء الحنابلة، فشخصية ابن عيسى موهوبة ومميزة ومتقنة، فهو استثناء من هؤلاء الأعلام في الجزيرة العربية، وفي هذه الصفحة نكتب عن بعض الجوانب من حياته الزاخرة وعن كنوزه النجدية التاريخية. كان ميلاد هذا العالم المحقق إبراهيم بن صالح بن عيسى في مدينة أشيقر منجبة العلماء ودور من دور العلماء في نجد، فكان ميلاده وطفولته وصباه في هذه المدينة، فكان أحد علمائها وأساطينها الذين أثبتوا أنفسهم في العلم، وكافح من أجل تحقيق طموحه العلمي وحقق شهرة في نجد ليست مزيفة، بل حقيقية واقعية؛ فهذه الشهرة العلمية هي بجده واجتهاده المتواصل في سبيل نيل العلم والتزود من العلوم المتاحة عن طريق الأخذ من العلماء، أو القراءة في الكتب في مختلف العلوم، أو السؤال والأسئلة -أقصد الأسئلة العلمية التي هي مفتاح العلوم-. يُعد أديباً وراوية للأخبار والأشعار.. واعتبر مرجعاً في معرفة الأحداث والأنساب صلاح وقناعة وُلد إبراهيم بن عيسى 1270ه كما أثبت ذلك في كتابه النفيس (عقد الدرر)، فيما وقع في نجد من الحوادث في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الهجري، حيث قال ما نصه: «وفيها ولد -أي 1270ه- الفقير إلى الله تعالى كاتب هذه الأحرف إبراهيم بن صالح بن إبراهيم بن عيسى في أشيقر». وتعّلم ابن عيسى مبادئ القراءة والكتابة والقرآن الكريم في أشيقر، يقول الشيخ عبدالله البسام عن نشأة المؤرخ ابن عيسى: «.. ونشأ نشأة صالحة من العفة والقناعة والصلاح والبعد عن المظاهر» -علماء نجد خلال ثمانية قرون-، وهذ التربية والنشأة التي تربى عليها استمرت معه حتى مات، ولم يتغيّر ولم يبدل قيمه ومبادئه من أجل دنيا يصيبها أو جاه يناله، بل إنه يفر من الشهرة والدليل على ذلك تلك الواقعة وهي ما ذكر د. أحمد البسام في تحقيقه لتاريخ ابن عيسى (تاريخ ابن عيسى) عن وثيقة كتبها المؤرخ ابن عيسى حينما كتب التتمة والذيل على تاريخ ابن بشر، فقد مر الملك المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله- على بلدة أشيقر فجاء أعيان أشيقر للسلام على الملك عبدالعزيز وكان آنذاك يطلق على الملك الإمام، يقول ابن عيسى: «ويمكن أنه بلغكم أن الإمام المكرم عبدالعزيز -أعزه الله بطاعته- طلب منا كتابة ذيل على تاريخ ابن بشر، والإمام -أطال الله عمره- ليس له معرفة بحالي وصار طريقه على أشيقر في العام الماضي، وظهر له كبار الجماعة للسلام عليه، وأنا ما ظهرت معهم لأن الإمام لا يعرفني، وإلا فالإمام -وفقه الله لكل خير- يعطي طلبة العلم عطاءً جزيلاً وأفعاله جميلة، فدخل الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ البلد وقال: إن الإمام سأل عنك، فذكرت له أنكم تؤرخون الحوادث ويلزمك مواجهته لتعرض عليه الذي عندك من التاريخ؛ وظهرت أنا والشيخ محمد وعرضت على الإمام الوريقات التي كتبتها وقال -أي الملك عبدالعزيز-: بودي إنك تبسِّط ذلك وتستقي جميع الحوادث، وإذا حصل منك ذلك فإن شاء الله أعطيك عطية جزيلة ولا أرفع النظر عنك، فشرعت في تبييض ذلك..». -انتهت الرسالة من كتاب تاريخ ابن عيسى دراسة وتحقيق د. أحمد البسام-. مجد وعلو وهنا حينما مر الملك عبدالعزيز -رحمه الله- على أشيقر وقام كبار أهاليها بالسلام عليه لم يخرج ابن عيسى معهم؛ لأنه يعتقد أنه ليس من كبار الجماعة، مع أنه في ذاك الزمن من طلاب العلم، وقد كان يعرفه الشيخ محمد بن عبداللطيف، ولو كان يريد المكانة والجاه لبادر للسلام على الملك عبدالعزيز، وهو يقول: إن الإمام لا يعرفني، ولكن هذه الزيارة الميمونة المباركة للملك عبدالعزيز كانت سببًا في كتابة ابن عيسى لمؤلفه (عقد الدرر)، وتشجيع ودعم الملك عبدالعزيز للمؤرخ ابن عيسى حينما اطلع على بعض الورقات التي كتبها، وقد ذكر المؤرخ ابن عيسى في مقدمته لعقد الدرر سبب تأليفه لكتابه هذا بإشارة من الملك عبدالعزيز، فالشيخ إبراهيم بن عيسى كان زاهدًا في الشهرة إلاّ أن الشهرة والمكانة الاجتماعية والعلمية تربعها وكان في قمة المجد والعلو مع تواضع العلماء ولين الجانب ودماثة الخلق، وكرم النفس والطباع. تراجم نجدية وإبراهيم بن عيسى -رحمه الله- حبب إليه العلم منذ الصغر، بل عشق العلم، وأصبح أكبر همه وغايته، ووفقه الله بعلماء نهل من علومهم في نجد وخارجها، وكل من ترجم له أثبت رحلاته النجدية لأجل العلم، ورحلاته خارج نجد، فهو من الرحالة النجديين الذين رحلوا وتركوا الأوطان والأهل بغية العلم، وكأنه يعيد رحلات طلاب العلم من أهل أشيقر الذين رحلوا إلى الشام في طلب العلم، وقد كتب عنهم المؤرخ ابن عيسى، فهو من هذه الناحية خدم التراجم النجدية سواء قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- أو بعدها، وكثيرًا ما ينقل عنه الذين كتبوا في التراجم النجدية، والشيخ عبدالله بن بسام يقول: إنه عوّل كثيرًا على تراجم وأخبار وأنساب نثرها في كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون)، وغيرهم من العلماء الذين كانوا يسألونه عن التاريخ والأخبار والأسر والتراجم، فأصبح المرجع والمصدر لهذه العلوم واحتيج إليه، ولو لم يكن ثقة ثبت متقن لما سأله علماء عصره عن هذه الفنون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو بذلك ينشر العلم ولا يبخل به ولم يكتمه عن الناس سواء كانوا من خاصتهم أو من العامة، فهذه الرسائل التي تَرِد إليه كان يجيب عليها، ومنها نماذج ما نشره د. أحمد البسام في المجلد الأول كتابه (تاريخ ابن عيسى)، فكما أن الناس يسألونه، فكذلك دائم السؤال فيما يتعلق بالفقه والتاريخ والأخبار والأنساب ويقيِّد هذا في أوراق حتى أصبحت مجاميع كثيرة متنوعة غير مرتبة. مكتبة خاصة وقال عبدالله البسيمي -الباحث المحقق- في كتابه (العلماء والكتاب في أشيقر خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر) كانت لديه -إبراهيم بن عيسى- مكتبة تحتوي على كثير من المخطوطات وفيها من النوادر الشيء الكثير، بالإضافة إلى الوثائق المهمة التي جمعها، وما سجله بقلمه من فوائد كثيرة، أما المخطوطات فبعث بكثير منها في حياته إلى تلميذه عبدالله الدحيان بالكويت، وأما الوثائق ومدوناته وباقي المخطوطات فبيعت بعد وفاته في سوق عنيزة وكان قد نقلها معه عندما انتقل إليها. الجدير بالذكر أن المؤرخ ابن عيسى هو من أوائل علماء نَجْد الذين أعدوا إحصائيات للبلاد في منطقة نجد وحال أهلها وتحديد المسافات -حدد المسافات بالميل كما ذكر ذلك الباحث عبدالله البسيمي في كتابه المذكور-. وقال المؤرخ الشيخ عبدالله البسام عن إبراهيم بن عيسى -رحمه الله-: «لا أعرف أحدًا من علماء نجد خدم تاريخ نجد مثله، تعب في تقييد أخباره وتسجيل حوادثه وضبط أنسابه حتى عُد بلا مراء مرجعًا فيه»، -علماء نجد خلال ثمانية قرون-. وقال عنه الشيخ صالح بن عثيمين: «اشتهر اسمه وبَعُدَ صيته واشتهر في معرفة التاريخ والأنساب»، ثم قال: «وبالجملة فهو من أدباء نجد ومؤرخيها»، -تسهيل السابلة-. وقال عنه الشيخ بكر أبو زيد: «كان رحمه الله فقيهًا مؤرخًا إخباريًا نسابه، وهو مؤرخ نجد على الإطلاق»، -طبقات النسابين-. رحلات علمية ورحل الشيخ إبراهيم بن عيسى -رحمه الله- من أجل العلم، فقد أخذ أولاً عن علماء نجد مثل الشيخ العالم أحمد بن عيسى والشيخ علي بن عيسى، وكثيرًا ما كان يسأل شيخه، ثم رحل إلى الأحساء وقرأ على الشيخ عيسى بن عكاس ولازمه مدة طويلة، وقام برحلة إلى العراق وقرأ على الشيخ صالح المبيض في الزبير، وسافر إلى الهند ورحل إلى حائل والكويت والرياض، وكانت بعض الرحلات الداخلية مع شيخه علي بن عيسى، فكان لهذه الرحلات دور كبير وعميق في اتساع معارفه واطلاعه على ثقافات أخرى غير الثقافة والبيئة التي عاش فيها -وهي نجد-، لذلك نجد أن الشيخ إبراهيم بن عيسى متنوع المعارف والفنون، فهو أديب مؤرخ فقيه وراوية للأخبار والأشعار بحّاثة يطلع على كل جديد في عصره، ولو أنه كتب مذكراته أو يومياته بالتفصيل وبالترتيب وما شاهده في رحلاته في الهندوالعراق والكويت والأحساء لاستفدنا أكثر، مع أنه كتب أوراقًا كثيرة تعد بالمئات فيها التاريخ والشعر والأنساب والأخبار والنوادر. جهد واضح وألّف إبراهيم بن عيسى -رحمه الله- عدة مؤلفات لكن أشهر مؤلفاته هو كتابه (عقد الدرر) المكمل لتاريخ ابن بشر، وقد حققه د. أحمد البسام، الجزء الثالث، وكتاب (الدولتان السعوديتان) -الثانية والثالثة-؛ وهو جهد كبير، بذل فيه المحقق جهدًا واضحًا في تحقيق النصوص، وكذلك كتابه الآخر (تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد)؛ الذي طبع عدة طبعات فقام د. أحمد البسام بتحقيق هذا الكتاب، وهذا يبدأ من العام 850 ه حتى العام 1341ه؛ وهو يشمل الأحداث قبل قيام الدولة السعودية الأولى والدولة السعودية الثانية وهو الجزء الثاني من تريخ ابن عيسى. وسرد الشيخ عبدالله البسام جملة من آثار ابن عيسى ومؤلفاته في كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون) في ترجمته للشيخ إبراهيم بن عيسى، وكذلك الباحث عبدالله البسيمي في كتابه (علماء وكُتّاب أشيقر). وتوفي إبراهيم بن عيسى بتاريخ الثامن من شهر شوال العام 1343ه في عنيزة، وكان له تلامذة في أشيقر وعنيزة نهلوا من علمه، فكان مباركًا أينما حل، رحم ه الله وغفر له، ولعله يقام مهرجان -عن المؤرخ ابن عيسى- وجهوده التاريخية والعلمية، فهو أهل لذلك. نشكر عبدالله البسيمي على إرساله صور منزل المؤرخ إبراهيم بن عيسى في أشيقر وتزويدي بترجمته. كتاب: تاريخ ابن عيسى للمؤلف د. أحمد البسام من مؤلفات إبراهيم بن عيسى -رحمه الله- دار المؤرخ إبراهيم بن عيسى التي دوّن فيها الكثير من مؤلفاته وأوراقه وُلد إبراهيم بن عيسى 1270ه في أشيقر إعداد- صلاح الزامل