كثيراً ما كانت المقاهي نقطة تجمُّع للأدباء والمثقفين وللأفكار والمشروعات الثقافية المختلفة، وما زالت فضاء إنسانياً رحباً قادراً على احتضان واحتواء الأفكار والعلاقات والتواصل الإنساني الجميل. ففيها يلتقي الغرباء والأصدقاء لتزجية الوقت وقضاء ساعات جميلة يتخفّف منها المرء من ثقل وأعباء الحياة واستحقاقاتها المختلفة. وعن هذه المقاهي ودورها يقول الروائي هنري جيمس، الذي كان مولعاً بمقاهي باريس: "ليست المقاهي أماكن فقط، بل عبارة عن مزيج من روائح متنوِّعة". والروائي النوبلي المصري نجيب محفوظ؛ عُرف عنه مصادقته للمقاهي، بل إن أكبر وأهم أعماله ولدت بين أجوائها ووسط ضجيجها وصخبها، وهو يعترف بدورها في حياته الإبداعية قائلاً: "لعبت المقاهي دوراً كبيراً في حياتي وكانت بالنسبة إليّ مخزناً بشريّاً ضخماً للأفكار والشخصيات". اليوم تنهض وزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأدب والترجمة والنشر بمبادرة خلاقة؛ وهي مبادرة "الشريك الأدبي"، والمتمثلة في عقد شراكات أدبية مع المقاهي، وهذه المشاركة كما يظهر من أهدافها تسعى إلى المساهمة في دعم هذه المقاهي ومساعدتها في ترويج الأعمال الأدبية بشكل مبتكر وأقرب لمتناول المجتمع، ما يسهم في رفع الوعي الثقافي بشكل مباشر. ولا شك أن إثراء المشهد الثقافي السعودي بجوانبه المختلفة فكرياً وفلسفياً وفنياً مطلب اجتماعي لأفراد الأسرة كافة، ويعكس الأهداف والرؤى العظيمة التي تنشدها رؤية 2030 من جودة للحياة تنعكس على جميع أفراد المجتمع. إن هذه المبادرة من شأنها أن تعيد العلاقة الأزلية بين المقاهي وبين النقاشات الفكرية والثقافية التي كانت تندلع شراراتها في المقاهي وتثمر أدباً وفكراً خلاقين يتوجّهان نحو القارئ العربي الذي يتلقّفهما بكل حب واهتمام. وما هذه المبادرة التي أطلقتها وزارة الثقافة إلا إعادة المقاهي لدورها المديني والتنويري الطليعي، وسيكون على الوزارة - كما تعهّدت - تذليل الصعاب كافة، وتهيئة البيئة التشريعية التي تضمن ممارسة المقاهي دورها الثقافي المنتظر وسط بيئة آمنة وحاضنة ومحرضة على الخلق والإبداع. أما الدعم اللوجستي والتقني وإصدار التراخيص والتصاريح للفعاليات فهما مكملان لدور الوزارة الذي من شأنه أن يرفع ويعلي من قيمة الثقافة ويجعلها زاداً يومياً لأطياف المجتمع كافة بعيداً عن البيروقراطية التي كبّلت مشروعات الوعي زمناً طويلاً.