أشرت في إحدى مقالاتي السابقة عن العصامية في الحياة؛ وأن هؤلاء العصاميين يفرضون عليك أن تحترمهم، فهم بنوا لهم مجدًا من الصفر، وكانت جميع الظروف ليست في صالحهم، ومع ذلك تغلبوا على هذه الظروف بكفاحهم ونضالهم وعلو هممهم وجلدهم، وقوة تحملهم وعدم استسلامهم لأيّ عقبات وعثرات وصعوبات، فهذه النفوس كما قلت عصامية وليست عظامية، التي شرفت بما فعلت وأنجزت طيلة مشوار حياتها، وعكس هذا كله العظامي الذي يدندن بما شيّده آباؤه وأجداده، وأنهم فعلوا ما لم يفعله الأوائل، وهو لم يقدم أي شيء يذكر، وما أكثر العظاميين في وقتنا هذا. فالعصامي الأديب الدبلوماسي فهد المارك -رحمه الله- هو من جمهرة العصاميين في هذا الوطن والبلد الطيب، كانت حياته كفاحا ونضالا ومثابرة وعلو همة في كل الأمور، استطاع بعد ذلك أن يكون أحد الأعلام في هذا الوطن، كل هذا بعد توفيق الله عز وجل له بجده واجتهاده، فقد صنع مجده وشقّ طريقه بنفسه وأعلى شأنه، وفي هذا التقرير نكتب شيئا من سيرته ومعالم في حياته. ولد فهد المارك في حائل في أوائل الثلاثينات من القرن الهجري المنصرم أوائل القرن العشرين الميلادي، وعاش طفولته وصباه في حائل وقرأ وتعلّم في كُتاب حائل، ثم خرج منها بعد ما شب طالبًا للرزق كغيره من أبناء المنطقة، ويذكر أنه درس في الأزهر وتعلّم هناك، وأحب المارك العلم، فقد درس في حلقة الشيخ محمد بن إبراهيم بالرياض -كما يروي هو بنفسه في كتابه عن سمو الأمير فهد بن سعد ومعرفة ثلاثين عامًا- ووصفه الشيخ ناصر الألباني في حديث له في حجته الأولى وكان ذاهبًا من دمشق إلى مكة عندما كان طالب علم، وكان الألباني في صحبة المارك لأجل الحج. أوسمة شرف وعندما اُفتتحت دار التوحيد بالطائف كان من أوائل من انضم إليها فهد المارك -رحمه الله- رغبة في الاستزادة من المعرفة، لكنه لم يكمل المشوار العلمي، وضحّى بكل هذا الأمر ولبى نداء فلسطين عندما قامت الحرب في العام 1367ه - 1948م-، واستأذن من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- للذهاب إلى فلسطين، وأذِن له وترأس الفوج العربي السعودي ضمن جيش الإنقاذ العربي في حرب فلسطين، ونال أوسمة الشرف، وكتب عن القضية الفلسطينية الكثير من المقالات، خاصةً في صحيفة اليمامة، وأفرد لها مؤلفات، بل إن القضية الفلسطينية كانت لا تخلو منها مؤلفاته الأدبية والتاريخية، حيث كانت شغله الشاغل. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها عاد البطل الشجاع المارك -هنا يتحدث المارك بنفسه في صحيفة اليمامة- قائلاً: حالما وصلت ورفاقي طلبت من حكومتي أن تعفيني من الالتحاق بالجيش، وأوضحت رغبتي في الاستقالة، ويعود ذلك إلى عزمي على إكمال دراستي، فوافق المسؤولون على طلبي وذهبت على الفور إلى الطائف معدًا نفسي إكمال دراستي، غير أن الذي منعني من مواصلتها هو أمر صدر من الملك عبدالعزيز يقضي بأن أذهب إلى دمشق على أن أجد المهمة التي أتولاها عند السفير عبدالعزيز بن زيد. ثقة القيادة وبعدما استقر فهد المارك -رحمه الله- بدمشق بالسفارة السعودية صدر أمر العام 1370ه -1950م- بأن يكون ملحقًا في السفارة حتى وصل إلى مرتبة وزير مفوَّض، وأخلص المارك في عمله الدبلوماسي طيلة حياته مسخرًا علاقاته وإمكاناته بما يخدم قيادته العليا ووطنه، باذلاً كل الجهد والوسع في سبيل هذا الهدف السامي، مقدمًا المشورة والرأي، متفانيًا في دبلوماسيته بصدق وأمانة وإتقان وإجادة، لم يدخر أي شيء من الممكن تقديمه لهذا العمل الدبلوماسي إلاّ قدمه، ونال الثقة من القيادة العليا بداية من الملك المؤسس الملك عبدالعزيز الذي صدر أمر منه بأن يكون أحد الدبلوماسيين في سفارته بدمشق، ثم نال هذه الثقة فيما بعد من الملك سعود بن عبدالعزيز، والملك فيصل بن عبدالعزيز، والملك خالد بن عبدالعزيز، والملك فهد بن عبدالعزيز، والملك عبدالله بن عبدالعزيز، والأمير سلطان بن عبدالعزيز، والأمير نايف بن عبدالعزيز -رحمهم الله-، وكذلك الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- حينما كان أميرًا لمنطقة الرياض. كان منزل الدبلوماسي فهد المارك بدمشق دار ضيافة لكل من زار دمشق من الوطن، وقد تنقل في عدد من سفارات المملكة دبلوماسيًا، في كل من اليمن وليبيا وتركيا، إذًا هو من الدبلوماسيين القدامي الذين خدموا الدبلوماسية السعودية بكل جدارة وكفاءة. رعاية الأيتام وفهد المارك -رحمه الله- له منجزات سواء في المجال الأدبي أو التاريخي أو الاجتماعي، لكن هناك منجز خيري أعتقد أنه مهم في حياته الحافلة بالمنجزات؛ ألا وهو سعيه في تأسيس جمعية خيرية لرعاية الأيتام والأرامل السعوديين بدمشق، وقد دُعِم هذا المشروع من قبل الحكومة والأفراد، ومن رجال الأعمال، وكان هذا بتاريخ 1953م -1373ه-، فكان عملًا خالدًا طيبًا مباركًا، تحققت ثماره فيما بعد، فهؤلاء الأيتام الذين جمعوا بين الغربة واليتم جاءت هذه المؤسسة الخيرية لتكفلهم وتقدم وسائل الرعاية والاهتمام والتعليم وتحفظهم من الضياع، وهذا لا شك من المارك عمل كبير يشكر عليه، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، وحينما كانت النية صادقة وخالصة نجح هذا المشروع، واستمرت هذه المؤسسة تؤدي رسالتها التربوية في حفظ هؤلاء الأيتام، وقد روى الأديب المارك موقفًا عن هؤلاء الأيتام شاهده في إحدى مدن المملكة، حيث يقول ما معناه: صادفه شخص ضابط وسلّم عليه بحفاوة بالغة وعرّفه بنفسه قائلاً: أنا أحد الأيتام الذين رعتهم هذه الجمعية الخيرية بدمشق من السعوديين، والآن أنا ضابط أكملت دراستي، ولهج هذا الضابط بشكر المارك على قيامه بتأسيس هذه الجمعية، فهذا واحد من عشرات الأيتام السعوديين الذين رعتهم هذا الجمعية الخيرية حيث درسوا وتعلموا وخدموا وطنهم، وأن المرء ليُسر ويفرح وتطيب نفسه حينما يرى ثمرات ما غرس ويشاهد بعينه نتاج ما أسس وعمل، ولعل هذا -إن شاء الله- من علامات القبول عند الله عز وجل للمارك، فهذا المنجز ليس أمرًا سهلاً بل هو عظيم وجليل يُحسب له، وحسنه من حسناته، وجزى الله كذلك من دعم هذا المشروع بالمال، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهذا العمل الذي صنعه الشهم المارك هو رصيده الحقيقي عند الله الذي نرجو من الله أن يتقبله منه، وأعظم الصنائع والأجور هي كفالة الأيتام والأرامل، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة» وأشار عليه الصلاة والسلام بالسبابة والوسطى «كناية عن مرافقته في الجنة»، وأي فضل أعظم من هذا العمل. همة وطموح وعرك فهد المارك -رحمه الله- الحياة وعركته، وجرب الناس وتعمق في مخابرهم، خرج من حائل وهو لم يبلغ الحلم مكافحًا من أجل لقمة العيش، وقد توفيت أمه وهو في السن السابعة، ثم كفلته جدته، وبعدها عانى ظروفًا قاسية جدًا، ورب محن أصبحت للشخص منحا، فالمارك يقول: «إن هذه المحن والظروف القاسية جعلته يكره الظلم والجبروت، وجعلت منه إنساناً ينتصر للضعيف»، كما خلقت هذه الظروف في نفسية المارك حب الاستقلال والاعتماد على النفس، وكسب المال لئلا يكون محتاجا إلى أحد من الناس، وهذا الشعور هو الذي جعل نفسية المارك الطموحة التي لا ترضى بالدون، لذلك كان عنده علو همه منذ الطفولة، يقول في كتابه (النفيس والممتاز): «ولكن المشكلة التي اصطدمت بها وجهًا لوجه هي أنني أحمل شعورًا أقل بكثير من مستوى طاقتي كطفل، وأسوأ ما يلاقي الإنسان في حياته عندما تكون إمكانات المرء دون همته»، واستدل بقول المقفع عندما سئل من أشقى الناس؟، فقال: «من علت همته وضعفت مقدرته واتسعت معرفته»، يقول المارك معلقاً على مقالة ابن المقفع الحكيمة: «وهكذا كنت أحمل هم الرجال في الحين الذي كنت في سن الأطفال»، إذًا كان المارك لديه علو همة وطموح منذ الطفولة رغم عدم الإمكانات، ومن هنا دخل معترك الحياة وخاض تجارب عدة، ومن أهمها انضمامه إلى أن يكون من المتطوعين العرب في فلسطين، وتأسيسه الفوج السعودي في هذه الحرب، مرورًا بمراحل حياته الوظيفية. ويُعد المارك اجتماعيا من الطراز الأول، لهذا كانت له تجارب مع الناس وانتجت هذه التجارب بعضًا من الحكم والعظات؛ ومنها: «الصبر على المصائب مصيبة على الشامت»، «إذا كان ابتكار المعروف فرض كفاية فإن المكافأة عليه فرض عين»، «الفضل يملك الكريم وإن قل»، «الكريم الذي ينسى ما أسدى من معروف، ويذكر ما أُسدي إليه»، «الوفاء يأتي من المرء كاملًا، فليس هناك وفاء ناقص؛ يعني ليس فيه نصف وفي، إما وفاءً أو عدمه»، «من له صديق وفي لا يخاف»، «الشهامة خصلة جميلة، ومن ذوي الفضل أجمل»، «اتق شر من أحسنت إليه، وأحسن إليه». مصلح اجتماعي وشخصية فهد المارك -رحمه الله- موهوبة، فهو دبلوماسي ومناضل ومؤرخ وأديب، ومصلح اجتماعي، وهذا الأخير مهم -أقصد الإصلاح الاجتماعي-، حيث يتطلب دراسة أحوال المجتمع، بل دراسة علم الاجتماع الحساس، فالمارك لم يدرس علم الاجتماع لكن بذكائه وفطنته وقوة حدسه وعمقه بالمجتمع استطاع أن يشخص الأمراض والعلل الاجتماعية في زمنه، وأن يطرح العلاج والحلول مجتهدًا في ذلك، فهو مصلح اجتماعي، ومن تلك الكتب التي أضافها للمكتبة السعودية أولاً ثم المكتبة العربية في الإصلاح الاجتماعي: (هكذا يكون الإصلاح)، (هكذا نصلح أوضاعنا الاجتماعية)، وأمّا في الفكر فكتابه (الهدامون والبناؤون)، وهو كتاب فكري اجتماعي، وقد قرأت منه فصولا عدة، وهو كتاب إبداعي من المارك ويدل دلالة على عمق ودراية، وكذلك تجارب، ومن بعض فقرات وجمل الكتاب «ويلٌ لمجتمع تكون به الوسيلة مبررة للغاية»، كذلك كتاب (الجبن مصدر لكل عاهة وآفة)، وهذا الكتاب ينبغي أن يقرأه كل كاتب وباحث ومفكر عربي مهتم بأحوال العالم العربي؛ لأنه يجسد سلبيات رآها وكشفها المارك المبدع، حيث يُعد مغايراً لجميع مؤلفاته. شيم العرب وكتاب (شيم العرب) لفهد المارك -رحمه الله- نال شهرة كبيرة في المملكة وفي الخليج العربي والعالم العربي، وقد أُعجب به القراء عامة على مختلف طبقاتهم، فقد كان مغرمًا بقصص مكارم أخلاق العرب في التاريخ المحلي في الجزيرة العربية متشوقًا إلى سماعها ممن وقعت لهم أو من سمعها ممن حدثت لهم، وكان لا يكتب القصة إلاّ بعد التأكد من صحتها والثقة من مصداقيتها، فالكتاب ليس كتاب أساطير أو قصص خيالية مسلية تروى للمتعة أو هي حكايات تقص على الأطفال والصبية، بل حكايات من الواقع المحلي في الجزيرة العربية رصدها المارك الرواية الحاذق المتقن للرواية، 150 قصة في مكارم الأخلاق وصاغها في أسلوب أدبي سلس سهل ممتع جذاب غير ممل ولا معقد، ومع أن القصص من واقع محلي شعبي، إلاّ أن المارك ببراعته الأسلوبية استطاع أن يوصل القصص إلى كل عربي يستطيع أن يعرف أبجديات القراءة، وهذا في حد ذاته براعة وإنجاز. وتفخر المكتبة السعودية بكتاب (شيم العرب)، حيث صدر منه أربعة أجزاء، وكان الخامس قد أعده وينوي إصداره إلاّ أن المنية وافته وليته أصدره في حياته، والكتاب تربية لمكارم الأخلاق وبالأخص في عصرنا هذا المادي الذي تغلبت فيه المصالح، وكانت هي أساس العلاقات بين الناس إلاّ من رحم الله، ودعوة خالصة وصادقة إلى التمسك بمكارم الأخلاق التي هي من صميم الدين الإسلامي، ومن قرأه عرف وعلم أن المارك كان له هدف سامٍ في نشر هذه الأخلاق في المجتمع العربي. شيم المؤسس والمؤرخ الراصد فهد المارك -رحمه الله- أصدر موسوعة أطلق عليها (من شيم الملك عبدالعزيز) في ثلاثة أجزاء، رصد فيه صفات الملك المؤسس -رحمه الله-، ومواقفه، تطرق فيها المارك كمؤرخ إلى أشياء لم يتطرق لها المؤرخون الذين كتبوا عن المؤسس، واعتمد على رجال ثُقات رووا له هذه المواقف عن الملك عبدالعزيز؛ فهو كتاب تاريخي، ولكن ليس تاريخ سردي بل يحلل الموقف تحليلًا، يقول المارك عن سبب تأليفه لشيم الملك عبدالعزيز: «إذا كان تأليف لشيم العرب هو أن يقتدي الخلق بأخلاق السلف وشيمهم، فإن في شيم الملك عبدالعزيز وأخلاقه ما هو جدير بأن يكون تراثًا حيًا»، وكما قلت إن المارك المؤرخ رصد الروايات الشفهية من الرواة الذين قابلهم متحدثين عن الملك عبدالعزيز وصفاته من وفاء وكرم ومروءة وشهامة وشجاعة، وهذه الروايات من التاريخ الشفوي الذي -لولا جهود المارك في توثيقها- لضاعت واندثرت، حيث صاغها بأسلوبه المعهود الرائع. إبداع أدبي وللأديب فهد المارك -رحمه الله- مؤلفات أخرى، وآخر ما صدر ونشر له كتابه عن حياة العوني بعنوان (تاريخ جيل في حياة رجل)، وهو من أحسن الدراسات الشعبية الإبداعية التي طرحت؛ فهذا الكتاب يأتي في إبداعات المارك الأدبية العميقة الزاخرة بالمعلومات التاريخية، فهو تاريخ وأدب وشعر وقصة، وقد تمكن المارك وهو المؤلف الحصيف أن يفهم ويحلل نفسية العوني من خلال شعره ومن أفواه الرواة الذين قابلهم، ونجح في تحليل هذه النفسية المتقلبة الثائرة، واعتقد -هذا رأيي أنا- ليس هناك دراسة عميقة مثل دراسة المارك لشعره، وحياة العوني الذي شغل الناس في عصره بأشعاره المهيجة. وكتب المارك مصنفات عن فلسطين، وكتابه (سجل الشرف)، حيث وثّق أسماء الشهداء من المملكة والمتطوعين وأسماء المتبرعين والمعارك التي خاضها أولئك فهو كتاب توثيقي تاريخي حسن. في تاريخ 20 /5/ 1398ه فاضت روح البطل الشهم الأديب الشيخ فهد المارك -رحمه الله- بعد حياة حافلة بالكفاح والنضال وخلّف ذكرًا خالدًا طيبًا ومشرفًا لوطنه. كتاب شيم العرب لفهد المارك نال شهرة كبيرة أصدر المارك موسوعة أطلق عليها من شيم الملك عبدالعزيز سجل الشرف وثّق فيه المارك أسماء الشهداء والمتطوعين والمتبرعين ولد فهد المارك في حائل أوائل الثلاثينات من القرن الهجري المنصرم صلاح الزامل