26- روى ابن سلام قول جرير: غَضِبتَ لِرَهطٍ من عَدِيٍّ تَشَمَّسوا - وفي أيِّ يومٍ لم تَشَمَّسْ رِحالُها (2/557). علق محمود شاكر: «ويُروى: «غضبتَ لرَحْلٍ» و»عجبتَ لرَحْلٍ» و»عجبتَ لرَجْلٍ». و»رحالها» بالحاء، وفي»م»: رجالها. تشمّس: قعد في الشمس أو انتصب لها. ورواية «لرهط» بيّنة، أما رواية «لرَحْل» فعندي أن رَحْلا جمع راحِل، كراكِب ورَكْب وصاحِب وصحْب، والراحل: الذي رَحَلَ بعيرَه، أي وضع عليه َرحْله للسفر، فهو صاحب رَحْل، ولم أره في كتب اللغة..». أقول: يقصد أنه استدرك على اللغويين «راحل» بمعنى ذو رحل أو صاحب رَحْل، ومجيء «فاعِل» وغيره (كفَعّال ومُفْعِل) للدلالة على النَسَب هو من الشواذ التي يُقتصَر فيها على المسموع، ولكن لا بد أن تصح الكلمة روايةً قبل مناقشتها درايةً، وحال النسختين ذُكِرتْ مرارا. ورواية الأغاني (ط إحسان عباس): «لِرَحْلٍ»، فعلى فرض صحة الرواية فالرحل يُطلق مُرادًا به الكُور، وليس مقصودا هنا كما هو واضح. ويُطلق مرادا به مسكن الرجل وبيته، وليس مقصودا أيضا، لقوله «تشمسوا» متحدثاً عن عقلاء، فدل السياق على أن مراده أهل الرحل، فهو كاستعمالهم «البيت» بمعنى أهله، فالبيت يطلق مرادا به المنزل، ويطلق مرادا به ساكنوه (انظر اللسان)، وكاستعمالهم «القرية» بمعنى ساكنيها. أما «الراحل» في كلام العرب فيأتي اسم فاعل من «رَحَلَ» متعديًا كقولهم: رَحَلَ بعيرَه، ويأتي اسم فاعل أيضا من «رَحَل» لازمًا بمعنى انتقل وسافر. وأما «فاعل» الدال على النسبة فليس له فعل ولا مصدر كنابِل ومكان آهِل، أو له فعل ومصدر لكنه بمعنى المفعول كماء دافق وعيشة راضية، أو مؤنث مجرد عن التاء كحائض وطالق (انظر شرح الشافية للرضي2/85)، وهذه القيود ليست في «راحِل» بمعنى ذي رحْل كما زعم المحقق. ولو فرضنا أن العرب استعملوا هذا المعنى فسياق البيت لا يناسبه أبدا، فذو الرحل أو صاحب الرحل هو صانع الرِحال أو بائعها؛ لأن فاعِلاً النَسَبيّة إذا تعلقت بشيء من الأثاث دلت على مزاولته ومعالجته وملازمته صناعة أو بيعا أو استعمالا، كما أنها إذا تعلقت بطعام دلت على الاشتغال به بنوع من أنواع الاشتغال كتامِرٍ ولابِنٍ، والشاعر هنا لا يعني إلا رجالا من قوم المخاطَب مسافرين معه لا أُناسًا مشتغلين بالرحال كانوا يمشون معه كما هو لازم تفسير المحقق! ويقال من جهة أخرى إن العرب قد استعملت من هذه المادة للدلالة على النَسَب ما يغني عن «فاعِل»؛ فقالوا:»رجل مُرْحِل» أي له رواحل كثيرة، كما يقال «مُعْرِب» إذا كان له خيلٌ عِراب (اللسان)، فيبدو أن هذا الاستعمال من باب النَسَب؛ أي ذو رواحل. والنسب غير القياسي ليس مقصورا على»فاعل» و»فعّال»، بل يجيء من غير الثلاثي كما قال الرضيّ (2/88) نحو مُرْضِع ومُنْفَطِرٌ به. فإذا كانت العرب استعملت مُفْعِلاً (مُرْحِل) للدلالة على النَسَب فقد استغنت به عن «فاعِل»هنا. فانظر إلى هذا المستوى المتواضع للرجل في صنعة العربية وفي «تذوق» نصوصها، ومع هذا يبالغ في الاعتداد بنفسه، ظانًا أن مجرد»تذوقه» المزعوم يغنيه فيفهم كما يُصوِّر له ذوقُه! وينقد ويستدرك كما يحلو لذوقه! مُزريًا على النحاة في مواضع من تعليقاته ومقالاته، متأثرًا في ذلك طريقةَ أستاذه المرصفي الذي تهجم عليهم في تعليقاته على الكامل واصفا إياهم بالأغتام وأصحاب الهذيان ونحو ذلك، مسميًا نفسه: «نصير اللغة والأدب»، مستلهِمًا ثورة محمد عبده وجمال الأفغاني التي جرّأت الشباب ولكنها لم تعلّمهم، وذَكَّتْهم ولم تُزَكِّهمْ، فلم تُفِدْ العنجهيةُ محمودا إلا تخبطا وفوضى، وإن كان تراجع في أواخر حياته - رحمه الله - عن هذا المسلك كما في حديثه في مقدمة أسرار البلاغة للجرجاني عن داء العصر «الاستسهال وقلة المبالاة»، ولعلي أتناول هذه القضية فيما سيأتي عن السياق الثقافي للنرجسية اللغوية. 27- وروى ابن سلام قول حُمَيْد في وصف الذئب: تَرى طَرَفَيْهِ يَعْسِلانِ كلاهما - كما اخْتَبَّ عُودُ الساسَمِ المُتتابِعُ (2/585)، فعلق شاكر:»اختبّ:اضطرب واهتز، من الخَبّ وهو الاضطراب، وليست في كتب اللغة المعروفة». أقول: قد ورد في اللسان وغيره:»اخْتَبَّ» ! واستدراكه هذا فيه «تَحَكّمٌ» و»ظاهرية»، وسبق لهما نظائر، فهو أولًا يُعبّر في تفسيره بألفاظ ليست بحروفها في المعاجم، ليقول بعد ذلك إن المعاجم خَلَتْ من هذا الاستعمال، في حين أن المعنى مذكور فيها ولكن بألفاظ أخرى! فاختار هنا لفظَي «الاضطراب» و»الاهتزاز» للتعبير عن معنى «اختبّ»، نافيا ورود المعنى في كتب اللغة لأن اللفظين لم يردا بحروفهما في تفسير «اختبّ»! والحق أنهم قالوا في معنى الكلمة: ضرْبٌ من العدو (ذكروا ضُروبا)، والسرعة، والرمَل، وكلها تتضمن الاضطراب الذي شبّه به الشاعرُ العَسَلَ، ولكن معيار وجود المعنى في كتب اللغة عند المحقق هو اللفظ الذي يختاره هو لتفسير المعنى، فإن وجده بحروفه كان الاستعمال مذكورا عنده في كتب اللغة، وإن لم يجده بحروفه فقد أخلّت به المعاجم في نظره! وأخشى أن يكون هذا السلوك منه مقصودا، تَطلُّبًا للإغراب والاستدراك، فإن كان كذلك فنحن بصدد علة ثالثة غير التحكّم والظاهرية؛ وهي التدليس! خصوصا أن له شواهد مضى بعضها وسيأتي غيرها! * أكاديمي متخصص في اللسانيات الثقافية - جامعة الطائف محمود شاكر