مثل كل الناس، كنتُ فيما مضى أستطيع أن أدخل البقالة، وآخذ مشترياتي، وأجمع قيمتها في رأسي، وأحاسب البقال وأمضي في سبيلي، كنتُ أحفظ رقم هويتي، ولوحة سيارتي، ورقم هاتف والدتي، وأقاربي، وأصدقائي، ومن يعز عليّ، كنتُ أستطيع أن أتذكر عام تخرجي من الابتدائية والثانوية، كنتُ أحفظ "عن ظهر قلب" تقريبًا كل ما يهمني أو يلفتني، وحينها لم يكن في جيبي هاتف محمول يعمل لحسابي كسكرتير نابه، وإن شئت كلصّ أو جاسوس يدوّن كل حركاتي وسكناتي وحتى خطواتي ليتاجر بها في سوق التطبيقات، كما لم يكن في متناول يدي "جوجل" لأسأله كلما غصّتْ ذاكرتي في بيت شعرٍ نسيت عجزه، أو معلومة التبس عليّ أمرها، ليمطرني بآلاف المعلومات في كل ما قيل أو كتب عنها، باختصار.. كنتُ أشعر أنني إنسان طبيعي وبشري من لحم ودم، وذاكرة زئبقية كمؤشر سوق البورصة. بمعنى آخر، كنتُ أستعمل دماغي بالقدر الذي وهبني الله إياه من الذكاء والفطنة "وهما قليل"، والحمد لله على كل حال، لكني ما كنتُ أحتاج إلى أن أدوّن كل شيء، كانت قدرتي على الاستيعاب "على أد حالي"، رغم أن الفاقد من المدخلات الاستيعابية أكثر بما يفوق الضعف مما يتبقى لي كرصيد ذهني، لكن "مرّة أخرى" يظل كل هذا هو ما يشعرني أنني إنسان طبيعي، بمشاعر تفيض وتنضب، وأحاسيس تتجمد وتتمدد، وذاكرة تجود وتبخس، أما اليوم، وبعدما لم أعد أميّز ما إذا كان الجوال جزءا من يدي أو أن يدي جزءٌ من الجوال، فقد تغيّر كل شيء، إي والله تغيّر كل شيء، هذا اللعين الذي احتلّنا وأصاب ذاكراتنا بالعطب بعد أن عطّلها عن العمل بسرقة دورها، وبعدما تمادى في كل شيء فصار هو الذاكرة وهو السكرتير وهو مدير الأعمال، وهو الثقافة، وهو الجليس، وهو الأنيس، وهو مستودع أسرارنا التي نعطيه إياها عن طيب خاطر، ونحن نعلم أين وكيف يستخدمها، بعد كل هذا وفي ظل تفحّش الذكاء الصناعي وأدواته، وتغوّله في حياتنا، أكاد أجزم أنه يلزم أن أبدّل هويتي الآدمية، فقد بدأتُ أشعر بأنني مجرد آلة هنالك من يحركها في الخفاء، وبالتالي فلا أستبعد صحة ما يُشاع حول دسيسة التطعيم والعبث بجينات الناس إمعانًا في استلاب ما تبقى من آدميتنا.