الإعلام والاتصال خلال بواكير ومنتصف القرن الماض، تَمثل التنظير في إرهاصاتهما من خلال توظيف الأطروحات والمنهجيات والمنطلقات المتداولة في أدبيات العلوم الإنسانية، وكانت المقاربات النظرية هي السائدة في تشكيل مفاهيم، وأبعاد، وتفسيرات الحدث الإعلامي في ذلك الزمن. وإذا كانت الوسائل الإعلامية التقليدية متشبثة بالعلاقة الخطية في إنتاج وتصدير المحتوى باتجاه الجمهور، وانتظار تغذيته الراجعة فإن الوسائل التواصلية تجاوزت هذا المفهوم الخطي إلى تبادلي مغلف بالحضور الاجتماعي الكثيف مما صنع أفقاً نوعياً من الاتصال متشبعاً بالإيجابية والنشاط في التفاعل، والسلبي في التلقي والفرز، والمتبلد في الوعي. كما قد يكون الواقع التواصلي تضمن أوجهاً من مكونات النموذج الاتصالي المعروف إلا أنه يبقى آلة تواصلية محدودة ليس فيه صنعة إعلامية حقيقية بمقادير المطبخ الإعلامي. ظني أن الجدل الطويل الحاصل هو محاولات لتصحيح المنظور والواقع الإعلامي التقليدي وإذابة إشكالاته المهنية والتنظيرية التي يواجهها في معركة التماهي مع الغزو التواصلي الفائق.. ما أشغل الأكاديمي والممارس والمفكر الإعلامي وتوقفه فقط عند سطحية التفريق بين التقليدي والجديد، وحدود الميزات والعيوب، وحسابات الطارئ الحديث.. ما صرفه عن التفكير بمقاربة نقدية باطنة وعميقة، من خلال مراجعة ورؤية نظرية تأسيسية لواقع افتراضي جديد مختلف تماماً عن التقليدي. هنا أجد أن منتسبي وخبراء الإعلام يتبنون مقارنة خاطئة حين يطرحون أوجه التشابه وملامح الاختلاف بين الحالة التواصلية التي نعيشها كطفرة تقنية وعقلية وعاطفية فاقت كل تصور.. والمجال الإعلامي العميق بالنماذج، والمتجذر بالمعايير، والمنضبط بالمقاييس المهنية. اللاعب اليوم في فضاء التواصل هم التواصليون المستخدمون للشبكات المختلفة التي أتاحت فوضى الاستخدام، وعشوائية إنتاج المحتوى، واستوعبت كل نسق مفتوح بلا ضوابط مهنية ما أضعف المنتج، وأوهن التعاطي.. وفي السابق كان اللاعب الحقيقي في سماء الإعلام التقليدي هو الإعلامي المحكوم بأدوات ومناهج الممارسة الإعلامية المفروضة، ما جعل النسق مغلقاً بجودة الإنتاج، وفاعلية التوظيف. بعد سطوة حالة التواصل الاجتماعي فمنظومة الاتصال ممارسة وتنظيراً اليوم تتفوق على متفرقات الإعلام المبني على ثنائية المرسل والمتلقي ونمطية الوسيلة، والمرتكز في بحوثه على "مقاربات تأليفية اهتمت بعرض الإشكالات العامة دون الاهتمام بالحالات الإمبريقية".. وبذلك تتغير الحاجة البحثية، وتتبدل متطلبات التنظير بحسب السلوك التواصلي والممارسة الجديدة إلى ضرورة مراجعة المفهوم، والفرض، والمنهج بتبني مدخلات مستجدة على واقع الاتصال أجدها ارتبطت بالتقنية والآلية والافتراضية في ظلال من الوهمية، والتمرد القيمي، والعشوائية، والتحرر المهني، واعتلال المجال العام. ويبقى القول: لاشك أن هناك عجزاً في التنظير الذاتي لمجريات الواقع التواصلي وتفاصيله وممارساته وذلك بسبب الاتجاه إلى قشوريات المفارقات، وتزاحم المتغيرات، وتسارع المستجدات، وضبابية الجمهور.. مما يجعل الموقف المعرفي في تتبعه مسألة التأصيل والتنظير موقفاً متمايلاً يرتكي دوماً بالعودة إلى ملابسات ومكونات النماذج النظرية المستهلكة برؤى مكررة، من هنا أصبحت المقارنة خاطئة جداً، حيث كان الأولى هو عزل الواقع التواصلي بحدود معقولة عن معطيات التقليدية النظرية للإعلام القديم وقصصه، ووضع ممارسات الفضاء التواصلي على مائدة تشريح نظري مختلفة بأدوات تفكيرية مستحدثة.