إننا أمام ثقافة جديدة لأرامكو تركز على التصنيع التحويلي والابتكار التقني بدلاً من الاكتفاء ببيع النفط الخام أو حتى تكريره.. هذه الصفقة هي فعلاً صفقة المستقبل بالنسبة للمملكة، لكنها لن تكون الخطوة الأخيرة، بل هي الخطوة الأولى بإذن الله.. على أن بعض الخبراء يركزون على الفائدة البعيدة التي ستجنيها أرامكو والاقتصاد السعودي من هذه الخطوة العملاقة، فهذا استثمار يضمن التركيز على تطوير المواد الجديدة المستخرجة من الصناعات الكيميائية وغير المعدنية (التي تعتمد في موادها الخام على البترول) ويقلل الاعتماد على مبيعات النفط الخام، والذي غالباً ما يستهلك كوقود لمحركات قطاع النقل على وجه الخصوص، وهو ما يواجه تحديات مناخية بسبب انبعاثات الكربون وبسبب تقنيات كالسيارات الكهربائية التي بدأت تتصاعد حول العالم. يضاف إلى ذلك أن حصة صندوق الاستثمارات العامة هي جزء من مدخراته التي تحدد استثماراته المستقبلية، وبالتالي فإن العائد المادي الذي سيجنيه الصندوق سيفتح آفاقاً استثمارية جديدة (على حد قول ياسر الرميان محافظ الصندوق). سمو ولي العهد - يحفظه الله - يؤكد "إذا أردنا أن نملك مستقبلاً قوياً بعد أربعين سنة من اليوم فعلى أرامكو أن تستثمر المزيد في المصب (صناعة المصافي والكيميائيات والصناعات التحويلية) فالطلب على النفط بعد عشرين عاماً من اليوم سيكون بشكل أكبر من البتروكيميائيات".. كلمات سمو ولي العهد تنظر لمستقبل المملكة البعيد لذلك هو يأمل أن يتم تحويل مليوني برميل يومياً من النفط السعودي إلى تصنيع المنتجات الكيميائية، وهذا يتطلب تنمية قدرات في التصنيع الكيميائي بحجم هائل تعادل نحو ثلاث شركات بحجم سابك. كما أن أرامكو قطعت شوطاً في تطوير ابتكارات ثورية تمكنها من تحويل النفط الخام إلى منتجات كيميائية بشكل مباشر وبنسبة 70 % من دون مرورها بمرحلة التكرير. نحن أمام فرص واعدة وتحديات كبيرة، واستثمار الثروة النفطية التي نملكها يتطلب الدخول في مغامرات استثمارية وتقنية جريئة على مستوى الابتكار وخلق الأفكار الجديدة. ومن المعروف أن أرامكو بدأت تتوسع خلال الخمسة أعوام الأخيرة في استخدام الأنابيب اللامعدنية في الحقول بدلاً من الأنابيب الفولاذية لنقل النفط، وأن هناك آلاف الكيلومترات من الأنابيب في حقل خريص بتقنيات الأنابيب اللامعدنية، وهذه الأنابيب منتجة من أصل بترولي ولها عدة مزايا مهمة كمقاومة الصدأ ومرونة التركيب. مثل هذه الأفكار تفتح المجال واسعاً للتفكير في توظيف النفط خارج وظيفته التقليدية المباشرة وهي الوقود والتعامل معه كمكون أساسي لإنتاج كثير من المواد التي تدخل في جميع الصناعات مثل الطائرات والسيارات ومواد البناء والأنابيب الضخمة. ولعل هذا باب كبير لتطوير البحث العلمي الذي يعزز من قيمة الصناعات البتروكيميائية واستثمار التقنيات الحديثة التي خلقت مجالات ومواد لم نكن نتصور أن نستخدمها في يوم من الأيام. لم تكن صفقة الاستحواذ التي تمت مؤخراً من قبل أرامكو ل70 % من أسهم شركة سابك مفاجأة لكثير من المهتمين بالشأن النفطي والصناعات البتروكيميائية في المملكة والعالم، ويبدو أن خطة التحول الاستراتيجي الخاصة بشركة أرامكو التي بدأت في العام 2011م - عندما كان المهندس خالد الفالح (وزير الاستثمار الحالي) رئيساً للشركة - بدأت تتحقق وتؤتي ثمارها لتصبح أرامكو خلال 10 سنوات من ذلك التاريخ (شركة كونية) في تكامل صناعة النفط والغاز والتكرير والبتروكيميائيات. كانت خطة التحول ترمي إلى المواءمة بين وضع أرامكو كونها أكبر الشركات التي تملك قطاعاً واسعاً في إنتاج النفط الخام وتوازن ذلك بتنمية قطاع بحجم مكافئ له في مجال التكرير والصناعات البتروكيميائية. وكان الاستثمار في إنشاء مشروعات جديدة للمصافي ومشروعات بتروكيميائية وتوسعة وتطوير معامل التكرير لتضم قدرات تصنيع كيميائية، وكذلك الاستحواذ على شركات بتروكيميائية عملاقة في صميم برنامج التحول من أجل تحقيق أقصى قيمة تصنيعية ممكنة من كل برميل نفط سعودي بدلاً من بيعه وتصديره نفطاً خاماً. في هذا الإطار كان من الطبيعي أن تكون سابك - وهي الشركة الوطنية العملاقة التي تصنف ثالث أو رابع أكبر شركة بتروكيميائية في العالم - أحد الأهداف الاستراتيجية لشركة أرامكو. هذه الصفقة المهمة لها تأثيرات مستقبلية واسعة أحدها استثمار الفرص الكامنة في مواءمة الخطط المستقبلية لأسواق النفط والبتروكيميائيات سواء على مستوى مبيعات المنتجات النفطية والكيميائية أو في مجال الاستفادة من اقتصاديات الحجم الكبير في الأعمال المساندة كالمشتريات والتركيز على ما يسمى المحتوى المحلي المرتكز على خلق ابتكارات وأفكار تقنية جديدة تعتمد على توظيف المواد الهيدروكربونية. أي أننا أمام ثقافة جديدة لأرامكو تركز على التصنيع التحويلي والابتكار التقني بدلاً من الاكتفاء ببيع النفط الخام أو حتى تكريره.. هذه الصفقة هي فعلاً صفقة المستقبل بالنسبة للمملكة. لكنها لن تكون الخطوة الأخيرة بل هي الخطوة الأولى بإذن الله.