فالفكر المغترب عن محيطه الحيوي يصنع فكرًا مغتربًا وبذلك يصير الفكر مفتقرًا إلى مقومات الحياة الطبيعية وقد يكون هذا ناشئ عن اختلال في مفهوم معنى الفكر ليس الفكر وقفًا على جيل دون جيل أو نفس مفكرة دون أخرى فعندما ندرس الأفكار سواء أكان منشؤها الشرق أو الغرب فإننا ندرسها بمنهجية وموضوعية وحيادية تامة وبعقلانية هادئة بعيدًا عن الأحكام المسبقة أو الحساسيات التاريخية أو صراع الثقافات أو الحرب الحضارية الباردة وبغير تبني أي موقف وعظي. فمعارف اليوم - ليس في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية وحدها وإنما في مجال العلوم الطبيعية - تقوم على أساس نظري وفكري مما يدفعنا إلى إيقاظ ملكاتنا الناقدة فالمفكر العربي اليوم ضمر عن حقول العلم والمعرفة وحصر نفسه في ميادين لا علاقة لها بالفكر ليس لعجز فيه ولكن لضعف الممارسة وقلة المحتوى ولذلك على المفكر أن يعود إلى موقعه الطبيعي ليعيد الحياة للغة التفكير. فالفكر المغترب عن محيطه الحيوي يصنع فكرًا مغتربًا وبذلك يصير الفكر مفتقرًا إلى مقومات الحياة الطبيعية وقد يكون هذا ناشئ عن اختلال في مفهوم معنى الفكر. فمثلًا عندما نطرق باب الدراسات الفكرية ونأخذ العلمانية نموذجًا ونسقط عليها دراستنا نجد أن الفكر الفلسفي ظاهر في معظم الكتابات التي تناولت العلمانية وإن كنت لا أتفق مع كل ما يعرضه الباحثون حول العلمانية. لقد درست العلمانية دراسة موسعة أثناء دراستي للمذاهب الفكرية فحين نضع أصابعنا على الحقائق محاولين أن نقف على واقع العلمانية في الغرب نجد أن العلمانية مؤسسة على فلسفة غربية ترجع نشأتها إلى الفكر الغربي فعندما ننظر إلى العلمانية من زاوية علمية ومنهجية نجد أنه تحكمت في العلمانية ثلاثة خيارات: خيار يفرض بقوة مسلكيات علمانية تحل محل القيم الدينية كالتجربة الفرنسية. وخيار الانفصال الوظيفي بين الدولة والكنيسة مع حيادية الدولة في الشأن الديني كما هي الحال في السويد وسويسرا ومنظومة الدول الإسكندنافية. وخيار الربط الوظيفي بين الكنيسة والدولة كما هي الحال في بريطانيا وإيطاليا وإيرلندا واليونان وإلى حد ما أمريكا. ويتسم هذا الخيار في صورته الغالبة بإعطاء دور متقدم للدين في الفضاء العام وفي مجالات الثقافة والحضور الاجتماعي والإنساني في مقابل أن توفر الكنيسة للدولة نوعًا من الإسناد الشرعي كما هو واقع الحال في بريطانيا. أما في أمريكا فحياة الأمريكيين وأعرافهم الاجتماعية لا تنفصل عن المسيحية البروتستانتينية كما أن الكنائس لا تزال تتمتع بحضور فاعل وقوي في المجتمع الأميركي ومن هنا يبدو من العسير قراءة وضع الكنيسة والدولة في الغرب بحيادية تامة ولذلك يكون من الخطأ المنهجي قراءة حركة العلمنة في الفضاء الغربي من خلال المنظومة العلمانية فما حظيت به وفاة البابا يوحنا بولس الثاني من حضور غير مسبوق وشعور ديني واسع كان الكثير يظن أن ذلك الشعور الديني قد انتهى الى الأبد وهذا لا يعني أن الغرب بصدد القطع مع تقاليده العلمانية أو بصدد الانعطاف على الكنيسة إذ لا يتعلق الموقف بالقطع أو الوصل هذا إذا ما علمنا أن حركة المجتمع الغربي أكثر تعقيدًا مما تعبر عنه التوقعات النظرية. لا ريب أن الفضاء الغربي بشقيه الأوروبي والأطلسي خضع لعلمانية واسعة النطاق على مختلف أصعدة الحياة ولكن لا يعني اختفاء الحضور الديني أو حتى تراجعه فالكنسية لم تختف من المشهد الثقافي والاجتماعي لقد صارت جزءاً من المجتمع المدني تتولى فئات المحرومين والمهمشين وتشد من أزر المتساقطين. فالغرب يتداخل فيه البعد الديني المسيحي مع الفكر الروماني والإغريقي مع الوجه العلماني إلى الحد الذي لا يمكن فصل هذه العناصر عن بعض. لذلك فالعلمانية في صورتها الحالية عبارة عن حركة مساومات وتسويات بين مختلف القوى الاجتماعية والدينية المتنازعة حينًا والمتوافقة حينًا آخر وهذا ما يفسر اختلافها من بلد إلى آخر ومن حقبة تاريخية إلى أخرى. فالعلمانية الفرنسية لا تعني التخلي عن الدين بقدر ما تعني إعادة تأسيس وضع الدين ضمن نظام الحالة الدنيوية وإعادة بناء النظام الاجتماعي العام على ضوء المبادئ الدنيوية. فالصراع ما بين الدين والدولة لم يكن قاعدة عامة لكل دين ودولة وإنما كانت خاصة بأوروبا القرون الوسطى فهناك علاقة انسجام وتفاهم ما بين البوذية والهندوسية والكونفوشيوسية والدولة في آسيا وهناك انسجام ما بين الإسلام والدول العربية والإسلامية. واليوم عادت مجتمعات أوروبا تقيم توافقات بين الدين والدولة بناء على مناقشات ومساجلات علنية لتنظيم حركة المؤسسات الكنسية فقد قامت ألمانيا بتمويل المؤسسات الدينية وفي بريطانيا ترأس التاج البريطاني الكنيسة الأنجليكانية وفي إسبانيا وهولندا هناك اتفاقات وتراضيات مماثلة مع المؤسسات الدينية.