جيل الرواد في بلادنا هو جيل عصامي شق طريقه بجهود شاقة وعصية وقاسية، وأثبت هذا الجيل عصاميته الحقيقية، فهذا الجيل من الرواد قد بدأ من الصفر إن لم يكن بعضهم قد ابتدأ من تحت الصفر، وهذا ما نقرأ في سيرهم التي كتبوها من خلال مذكراتهم أو سيرهم الذاتية أو التي كتبت عنهم سواء كان هؤلاء علماء أو أدباء أو من أهل الصحافة وأرباب القلم. ومن الذين مارسوا التعليم قبل ثمانين سنة قبل التعليم النظامي، فهؤلاء المعلمون والمربون قد بذلوا كل طاقة معنوية ومادية في تعليم النشء، وغرس الأخلاق، وشخصيتنا هي من جيل الرواد الأوائل في التعليم وليس هذا وحسب، بل أضاف إلى هذا الحقل المهم والحساس ريادة أخرى لا تقل عن التعليم مكانة وأهمية ألا وهي نشر الثقافة بين الناس؛ وهو المعلم والأديب عبدالمحسن بن عثمان أبابطين - رحمه الله -، هذه الشخصية الموهوبة التي كان لها وعي مبكر وسبق زمانه سواءً في التعليم أو في نشر الكتب أو التأليف. عبدالمحسن أبابطين من مواليد سدير في قرية تسمى الحصون، ولد عام 1337ه - وهو عام الوباء - وهاجر إلى الرياض؛ لأجل لقمة العيش؛ لأن قريته الصغيرة لا تلبي رغباته وحاجياته المادية فكانت هذه القرية كبقية قرى نجد، وقبل هذه الرحلة إلى الرياض كان قد جرى وراء الرزق كادحاً وعاملاً في إحدى المزارع في إحدى القرى المجاورة، فلقد تحمل مسؤولية العيش وهو في سن الطفولة، وقد جسّد هذه المعاناة في سيرته الذاتية التي عنون لها عنواناً جذاباً براقاً وهو «ثمن الكفاح»، ولأول مرة يمم شطر الرياض مشياً على الأقدام باحثاً عن عمل يكفيه هم العيش لكنه لم يفلح في إيجاد عمل، فالأستاذ الرائد لم يخلق أن يكون من عامة الناس أو من الدهماء والسوقة، بل خلقه الله لأمر أجل وأعظم وأشرف من هذا، حيث فتح الله عليه حب العلم والتعلم، فقد قَبِلَ نصيحة أحد أصدقاء والده، والله سبحانه إذا أراد لشخص شيئاً آخر هيأ له أسبابه وسهّل الطرق الموصلة إليه، وهكذا كان لعبدالمحسن الذي عكف على حلقات العلم والعلماء في مدينة الرياض، وقد سرد جملة من العلماء في نبذته التي كتبها في مقدمة كتابه (الكلام الجذاب في مؤانسة الأحباب)، فقد درس على ثمانية ما بين طالب علم وعالم ومقرئ للقرآن، وأشهرهم الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ. ابتدائية وكفاءة اتصل عبدالمحسن أبابطين - رحمه الله - بحلقات العلم بالكتاتيب في الرياض عام 1352ه، وقد أخفق في الامتحان الأول، ثم عاود مرة ثانية امتحان الكتاتيب ونجح ومُنح شهادة من الشيخ محمد بن إبراهيم، وقد واكب الشيخ المعلم التعليم النظامي عندما بدأ في الرياض ومع أنه كبير السن إلاّ أنه انضم إلى هذا التعليم، ومع أنه معلم ومدرس في التعليم القديم ومارس التعليم في مدارس خاصة أهلية، وكان معاوناً للمعلم الأستاذ الشهير محمد السناري، واجتاز المرحلة الابتدائية عام 1375ه ثم اجتاز مرحلة المتوسطة - أي الكفاءة - عام 1379ه، وهذه هي الشهادات للعصامي عبدالمحسن أبابطين. معلم النشء ومنذ أن استقر عبدالمحسن أبابطين - رحمه الله - بالرياض وحينما كان يطلب العلم على المشايخ مارس التدريس مع المعلم محمد السناري مع طلبة العلم آنذاك، ولحبه لأهالي بلدته ذهب إليها وافتتح مدرسة في روضة سدير، وكانت هذه المدرسة متطورة نوعاً ما عن أسلوب الكتاتيب، فقد استفاد من المدارس الأهلية التي شارك فيها السناري في التعليم، فكان الأستاذ عبدالمحسن يعلِّم أبناء قريته الأناشيد والقراءة والكتابة والقرآن، ولهذا كان المنهج الجديد في هذه المدرسة ردود فعل سلبية من بعض أهالي القرية، ثم عاد إلى الرياض وافتتح مدرسة أهلية خاصة به، وذلك عام 1359ه. جهود شخصية كان شغف عبدالمحسن أبابطين - رحمه الله - تعليم الناس يوم أن كانت الأمية هي السائدة في المجتمع، ولم تكن هناك مدارس نظامية في مدينة الرياض، وكل هذا بجهود شخصية منه مع فقر الإمكانات المادية، وقد تعاطى شيئا من التجارة الصغيرة لأجل أن يسد حاجته، فيذكر الباحث عثمان أبابطين أن رأس ماله خمسة عشر ريالاً فرنسي، وحصلت بينه وبين أحد تجار الرياض أن يشتري منه بضاعة ويسدد له بعد تسويقها وبيعها، وتعامل مع تجار الرياض ولمسوا فيه الصدق والأمانة، فكان يسوِّق لهم بضائعهم مع نسبة محددة له، وقد تجمع له رأس مال مقداره خمس مئة ريال فرنسي، ولو استمر في التجارة لكان أحد تجار الرياض، ولكنه لم يخلق تاجراً إنما خلق معلماً وأديباً وطالب علم وباعث نهضة ثقافية في الرياض، وهو أهل لهذا اللقب الأخير، وهو بعث النهضة الثقافية في الرياض بل قد يكون من الأوائل في المنطقة كلها، نجد المنطقة الوسطى في هذا الميدان المهم. سمعة طيبة وتحدث الشيخ عبدالمحسن أبابطين عن هذه المحطة من محطات حياته في سيرته «ثمن الكفاح» عندما افتتح مدرسته في الرياض قائلاً: «فبعد مرور الأيام فكّر محسن - يقصد نفسه - في عمل يدر عليه رزقاً أكثر من عمله السابق فافتتح مدرسة أهلية بجانب محله التجاري إلى وقت المساء، وواصل كفاحه من أجل البقاء في طلب الرزق وطلب العلم، يحضر مجالس العلماء بعد الفجر ويفتح مدرسته بعد ارتفاع الشمس مواصلاً التدريس لتلاميذه بقية النهار ما عدا وسط النهار - أي ما بين الظهر والعصر - فإنه في هذا الوقت يسعى في غدائه ثم يستأنف التدريس حتى قبيل المغرب بنصف ساعة، ولازم عمله مدة لا تقل عن خمس سنوات فحصل على سمعة طيبة وإقبال من طلابه مستمر، فوفق توفيقاً حسناً». عدم استسلام هذه حياة الرائد عبدالمحسن أبابطين - رحمه الله - في التعليم الأهلي في مدينة الرياض، فمنذ أن أقبل على مجالس الدرس وهو يواصل محو الأمية في مدينة الرياض، فهو في آن واحد تلميذ ومعلم وتاجر يتعاطى تجارة محدودة، فالنهار كله كدح وتعب ووصب ونصب، يصوِّر هذه السنوات في «ثمن الكفاح»، لقد عاش بطل هذه القصة منذ نعومة أظفاره في بؤس وشقاء لكنه لم يستسلم لليأس بل درس في الحياة وشق طريقه غير وجل ولا هياب عبر أمواج البؤس المتلاطمة، لقد كانت كاميرا عبدالمحسن أبابطين تصوّر هذه الحياة التي عاشها لحظة بلحظة وساعة بساعة، فلقد عاش الجوع والحاجة والفقر، يصف هذه قائلاً: «عاد إلى الرياض وعاود كفاحه في سبيل العلم والبقاء وكان يحمل بين جنبيه قلباً سليماً مع رثاثة هندامه، إذ أن منظره مثيراً للانتباه وملابسه تسترعي النظر، وخاصة أصدقاءه ومعارفه، وكانت همسات السخرية تبدو على وجوه الموسرين، ويجالد في أربع جهات من العدو: الفقر والجهل والمرض والسخرية. في هذه الأيام الحالكة التي واجهها من الفقر حتى أنه أحياناً لا يجد ثمن القوت اليومي، وبمرورها شديد الوطأة عليه، إلاّ أنه كان كالجبل الراسي الذي لا تهزه الأعاصير، فلقد واجه أياماً أقسى وأصعب منها وأشد ضراوة ووحشية إبان طفولته وصباه. مكتبة تجارية وأسّس عبدالمحسن أبابطين - رحمه الله - مكتبة بتاريخ 1364ه أي قبل خمسة وسبعين عاما، وهذه ريادة لم يسبق إليها أحد، افتتح داراً للنشر والتوزيع وبيع الكتب، وكانت متخصصة في نشر الكتب الدينية والأدبية والتعليمية، وليس الهدف تجاريا بحتا، فتجارة الكتب في ذلك الزمن ليست مربحة بل هي قد تكون خاسرة، ومع ذلك فلقد غامر وتجرأ هذا العصامي المكافح على هذا المشروع الثقافي الريادي في هذه المدينة الصغيرة التي تحوطها الأسوار، فكانت هذه التي أطلق عليها الشيخ عبدالمحسن أبابطين المكتبة الأهلية مصدر من مصادر الثقافة والعلم والأدب والوعي، ولقد جمع بين التعليم ونشره، وبث الوعي الثقافي في مجتمع لا يزال معظم أفراده لا يدرك هذا الوعي ولا يشعر به، أو قل لم يفكر فيه فكان من هذا الشاب السابق لعصره وزمنه، وكانت عمره حينما افتتح أبواب مكتبته سبعة وعشرين عاماً، وفعلاً لقد أدت المكتبة الأهلية هذه الرسالة الثقافية والدينية وحققت أهدافها خلال سنوات معدودات. وحدثني الأديب عبدالرحمن بن شعيل قائلاً: «لقد كنت أزور مكتبة الشيخ عبدالمحسن وكانت قد اشتركت عن طريقه في إحدى الصحف المحلية ولعلها جريدة البلاد السعودية وكان يقول لي هذا البيت: جريدة الشعب لا أبغي لها بدلاً سوى أم القرى يا صاحب القلم ويقصد بجريدة الشعب جريدة البلاد. نشر الكُتب كان مشروع المكتبة الأهلية قد نشر كتباً كثيرة في هذه المدة والمرحلة لأول مرة تنشر، منها مؤلفات الشيخ فيصل المبارك، وله الريادة في نشرها، منها توفيق الرحمن في دروس القرآن، وكتاب بستان الأخبار مختصر نيل الأوطار، وخلاصة الكلام على عمدة الأحكام، وكلمات السداد على متن الزاد، والسبيكة الذهبية، ونشرت بعض مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب، كذلك نشرت كتباً تاريخية، فقد نشر عقد الدرر للمؤرخ إبراهيم بن عيسى عام 1373ه، وهو تتمة لتاريخ ابن بشر، ولأول مرة ينشر، ونشر كتاب عنوان المجد في تاريخ نجد نفس العام، وكتاب روضة الأفكار للمؤرخ حسين بن غنام وقد أشاد المؤرخ حمد الجاسر بريادة الشيخ عبدالمحسن أبابطين في نشر الكتب حيث قال: «فقد كان أول من أنشأ مكتبة لبيع الكتب في الرياض، وأول من تصدى لنشر المؤلفات المتعلقة ببلادنا تاريخية مدرسية، وكنت أدعوه ويدعوه غيري»، وهذه شهادة وإنصاف من المؤرخ حمد الجاسر للشيخ عبدالمحسن أبابطين تذكر وتشكر، وقد لقبه الجاسر ب»شيخنا» وهي تعني الكثير من أحد الرواد وهو الأستاذ الجاسر وهي تعني مشيخة العلم والأدب والقلم، وهو السابق على المؤرخ حمد الجاسر في تأسيس مكتبة لنشر الكتب. تجليد الكتب ولأهمية الكُتب لدى الشيخ عبدالمحسن أبابطين - رحمه الله -، فلقد تعلم مهنة تجليد الكتب قبل افتتاح المكتبة، ولاشك أن المكتبة الأهلية هذه قد أدت دوراً مهماً في نشر العلم والثقافة في مدينة الرياض وما حولها، وكان طلبة العلم ومحبي الكتب يرتادون مكتبته لشراء الكتب والاستفسار عن الجديد في زمن كان يقوم هو بطباعة هذه الكتب خارج المملكة، وخصوصاً في مصر متكلفاً عناء السفر مادياً ومعنوياً، وبعض هذه الكتب يكون من ماله وبعضها بالاشتراك مع مكتبات أخرى والبعض الآخر على نفقة المحسنين، وقد وصف رحلاته إلى مصر بقصد الطباعة في «ثمن الكفاح» وقد ترك التدريس وتفرّغ لبيع الكتب كل ذلك لأهمية الكتاب الذي هو مصدر العلم والفكر والثقافة. أثر ثقافي وألّف عبدالمحسن أبابطين - رحمه الله - عدة مؤلفات منها الجانب المدرسي الذي أسهم فيه بشكل جيد، وبما أنه معلم وأستاذ لقد كان له نصيب في هذا الشأن المهم، ومن مؤلفاته هذه «التطفلات الأدبية لأبناء المدارس الابتدائية» طبع عام 1366ه، وكان مقرراً في المدارس في الرياض وخارجها وكتاب «أخلاق التلميذ» طبع عام 1370ه، وكتاب «الأناشيد المدرسية» وطبع عام 1371ه، وهو كذلك مقرر، وأما مؤلفاته الأخرى فأشهرها كتابه «المجموعة البهية في الأشعار النبطية» وهو قصائد في الشعر الشعبي طبع عام 1381ه وهو من أوائل الكتب في الشعر الشعبي المنشور، وكتاب «ثمن الكفاح» وهو سيرته الذاتية وهو وصف للحالة الاجتماعية والاقتصادية في نجد وفي الرياض وتاريخ اجتماعي دقيق في تلك المرحلة، وكتاب «سبيل الكفاح»، وكتاب «الكلام الجذاب في مؤانسة الأحباب» وهذا العنوان الصحيح للكتاب وقد غير الناشر بعنوان آخر وهو «مسامرة الأصحاب في مؤانسة الأحباب» وهو آخر مؤلفاته وطبع عام 1401ه. دار الأيتام وتولى عبدالمحسن أبابطين عدداً من القيادات التربوية؛ منها مديراً لدار الأيتام عام 1363ه، براتب ثلاثة وثلاثين ريالا، وانتدب إلى روضة سدير مكلفاً بافتتاح أول مدرسة حكومية عام 1369ه، ثم انتقل إلى مدرسة سدوس ثم إلى الحلوة ومدير لمدرسة الباطن وادي حنيفة بالرياض، ومديراً لمدرسة الحلة ثم نقل إلى وزارة المعارف وبقي فيها حتى توفي برتبة مفتش ثم رئيساً لقسم فيها ثم عاد للتفتيش الإداري. في شهر جمادى الأولى أصيب بمرض مفاجئ تعب منه كثيراً وآلمه واضطر للسفر إلى أميركا، وقُررت له عملية جراحية، وقبل يوم من العملية توفي - رحمه الله - يوم الثلاثاء 17 / 11 / 1401ه وصلي عليه في الجامع الكبير، ودُفن في مقبرة العود بتاريخ 21 / 11 / 1401ه. أشكر الباحث عثمان بن عبدالمحسن أبابطين على تزويدي ودعمي عن سيرة والده وحياته وجزاه الله كل خير. عبدالمحسن أبابطين (أقصى اليمين) ثم أكرم هاشم رشيد وعز الدين المعلمان في مدرسة الباطن المكتبة الأهلية لصاحبها عبدالمحسن أبابطين أحد منشورات المكتبة الأهلية شهادة الكفاءة التي نالها عبدالمحسن أبابطين من مدرسة النهضة بالرياض صلاح الزامل