فيروس كورونا العدو الخفي الذي أصاب العالم بالهلع وشل مفاصل الحياة وعطل السفر وأوقف الإنتاج، تداعياته الاقتصادية تزداد قسوة كل يوم، النفط خسر أكثر من 50 % من سعره، والبورصات العالمية تراجعت بأكثر من 30 % من قيمتها ولم تجدِ تحركات المصارف المركزية في العالم لوقف هذا النزيف، حتى الملاذات الآمنة لم تعد آمنة في ظل الخوف الذي يسيطر على المشهد العام والضبابية التي زادت من القلق فلا أحد يعلم متى تنتهي الأزمة ولكن المؤكد أن الأثر الاقتصادي على العالم سوف يستمر لفترة من الزمن حتى لو تمت السيطرة على انتشار الفيروس سواء باكتشاف لقاح وقائي أو دواء شافٍ أو محاصرته بالإجراءات الاحترازية من عزل ومنع السفر والاختلاط، ولعل ما حدث في الصين من تراجع كبير في عدد الحالات النشطة وقلة عدد الإصابات الجديدة يعطينا بصيص أمل على أن العالم قد ينجح في محاصرة المرض متى ما استفاد من التجربة الصينية. حكومة المملكة اتخذت إجراءات مشددة قبل تسجيل أي حالة وأغلقت كل المنافذ والتجمعات التي قد تنشر الفيروس، وهذه الإجراءات لا شك أنها ساهمت في الحد من الإصابات، كما أن معظم الإصابات التي سجلت كانت ناتجة عن السفر خارج المملكة، ومع إيقاف الرحلات الدولية سوف نشهد نتائج إيجابية خلال الأسابيع القادمة عندها سوف يتم تخفيف بعض الإجراءات وعودة النشاط التجاري وهو ما قد يخفف من الآثار الاقتصادية، مؤسسة النقد العربي السعودي قامت بدعم مالي في غاية الأهمية يحمي الشركات الصغيرة والمتوسطة، هذا الدعم خُصص منه 30 مليار ريال لغرض تأجيل سداد القروض لمدة 6 أشهر، و13.2 مليار لدعم التمويل الجديد، و6 مليارات لضمانات التمويل، و800 مليون عبارة عن تحمل رسوم نقاط البيع لمدة 3 أشهر، وهذا الدعم لا شك بأنه مبتكر وغير مسبوق وهو لا يدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة فقط بل يدعم القطاع المصرفي ويزيد الملاءة المالية للمصارف وتمكينها من مواجهة الآثار الاقتصادية التي قد تتطور في المستقبل، كما قدمت الحكومة دعماً إضافياً بقيمة تتجاوز 70 مليار ريال لتخفيف آثار تداعيات فيروس كورونا على الأنشطة الاقتصادية والقطاع الخاص. الأزمات المالية والأحداث الجيوسياسية التي مرت على المملكة بالرغم من آثارها السلبية إلا أنها دفعت مؤسسة النقد لاتخاذ إجراءات متشددة مع المصارف خلال السنوات الماضية رفعت ملاءتها المالية وساهمت في بناء نظام مصرفي متين وقد أجرت المؤسسة عدة اختبارات للتأكد من قدرة المصارف السعودية على تحمل مختلف سيناريوهات الصدمات الاقتصادية، وأظهرت نتائج اختبار التحمل باستخدام جميع السيناريوهات الثلاثة أن القطاع المصرفي سيظل متمتعا برأسمال جيد في حال الصدمات الكبيرة، وهو ما يمنحنا الثقة في قدرة المصارف السعودية على تجاوز آثار الأزمة الاقتصادية التي قد تنتج عن فيروس كورونا، لجنة بازل منذ العام 1988 أعطت أهمية أساسية لكفاية رأس المال ليكون ملزماً لكل المصارف العاملة في النشاط المصرفي كمعيار دولي للدلالة على مكانة المركز المالي للمصرف مما يقوي ثقة المودعين فيه من منظور تعميق ملاءة المصرف، وقد تم رفع المعيار مرتين كان آخرها بعد الأزمة المالية العالمية 2008 وهو ما يعرف ببازل 3 والذي رفع معدل كفاية رأس المال إلى 10.5 % ومعدل كفاية رأس المال الأساسي والمساند 13 % وقد حققت المصارف السعودية بنهاية العام 2019 معدل كفاية رأس المال الأساسي والمساند بأكثر من 19.7 % وهو أعلى بكثير من معيار بازل وهو ما يجعل المصارف السعودية من أكثر المصارف على مستوى العالم في الملاءة المالية، كما أن بازل 3 يطلب من المصارف الاحتفاظ بسيولة تغطى الالتزامات قصيرة الأجل لمدة 30 يوماً والمصارف السعودية لديها سيولة عالية جداً تتجاوز هذا المعيار وتقدر صافي الموجودات السائلة بنحو 63 مليار ريال، الجدارة الائتمانية لدى المصارف السعودية جيدة جداً حيث لا تتجاوز نسبة القروض المتعثرة عن 1.8 % من إجمالي التمويل، كما أن المخصصات التي تم تجنيبها تغطي أكثر من 154 % من القروض المتعثرة أما نسبة الإقراض للودائع في حدود 83 % وهنالك مجال للمصارف لزيادة الإقراض إذا دعت الحاجة لمواجهة أي طلبات ائتمانية جديدة، مؤسسة النقد تحتفظ بنسبة 6 % من ودائع العملاء في المصارف من أجل تغطية الطلب المفاجئ للسيولة في مثل هذه الأزمات وتقدر بأكثر من 100 مليار ريال، وهذا ما قد يعزز الثقة في المصارف السعودية وقدرتها بحول الله على تجاوز الأزمة الحالية بكل اقتدار، كما أن الأصول الاحتياطية لمؤسسة النقد كبيرة جداً تمكنها من ضخ سيولة في النظام المصرفي متى ما دعت الحاجة لذلك، وهنالك أيضاً الصناديق الحكومية التي لديها القدرة الكاملة على توفير السيولة في أي وقت يحتاج إليه الاقتصاد، ومع كل الثقة في النظام المصرفي السعودي إلا أننا أيضاً بحاجة إلى أن تقوم مؤسسة النقد احترازياً بتوجيه المصارف لإيقاف أي نشاط ائتماني غير ضروري في هذه الفترة الحرجة مثل التمويل العقاري وغيره من التمويلات التي يمكن تأجيلها ولا تؤثر على حركة النشاط الاقتصادي حتى تتضح الرؤية حول التداعيات الاقتصادية خلال الأشهر القادمة. الإيرادات النفطية لا شك أنها سوف تتراجع بسبب انخفاض الأسعار نتيجة ضعف الطلب على النفط وانهيار اتفاق أوبك بلس ولكن زيادة الإنتاج قد تعوض جزءا من تراجع الأسعار، واحترازياً قامت وزارة المالية بعمل خفض بنحو 50 مليار ريال من الإنفاق على البنود ذات الأثر الأقل اجتماعيا واقتصاديا، وهذا إجراء في غاية الأهمية في مثل هذه الظروف الصعبة ويعطي إدارة المالية العامة مرونة للتعاطي مع كل الظروف بما لا يؤثر على الأهداف الاستراتيجية للدولة، وإن شاء الله سوف نتجاوز هذه الأزمة بكل اقتدار.