أثارت جولة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة في أفريقيا في شهر ديسمبر من العام الماضي والتى شملت كل من السودان وتونس وتشاد، جدلا واسعا إثر حصول أنقرة على مشروع إدارة جزيرة سواكن الواقعة على الساحل الغربي للبحر الأحمر بشرقي السودان، ما أدى إلى تأجيج التوتر في المنطقة بسبب الخطوة التي وصفت عدة جهات بالشرق الأوسط بأنها تأتي ضمن المخطط التركي لإعادة نفوذ الإمبراطورية العثمانية الغابرة. وأتي اختيار أنقرة لسواكن في إطار مخطط توسعي مرسوم بدقة، وبذلت تركيا من أجل تحقيقه الكثير من الأموال والوعود، منها على سبيل المثال إنشاء مشروعات زراعية وبناء مطار الخرطوم الجديد.. وترميم آثار سواكن، فالجزيرة الواقعة على بعد 560 ميلاً عن العاصمة السودانية الخرطوم، كانت تحظى بمكانة مهمة في عهد الدولة العثمانية، إذ كانت مركزا لبحريتها في البحر الأحمر، بل إن ميناءها ضم مقر الحاكم العثماني لمنطقة جنوبالبحر الأحمر بين عامي 1821 و1885م. وعملت تركيا من خلال هذا البعد التاريخي على الفوز بهذه الجزيرة التى تتمتع بقيمة جيوسياسية عالية، ثم نالتها أخيرا على طبق من ذهب بموجب اتفاقية وقعها الرئيس التركي أردوغان مع نظيره السوداني المخلوع عمر البشير. وعند إعلانه في ملتقى اقتصادي جمع رجال أعمال سودانيين وأتراك خبر تولي أنقرة إدارة الجزيرة السودانية قال أردوغان إن هناك "ملحقا" لن أتحدث عنه الآن، في جملة غامضة اختزلت الأهداف المريبة الكامنة في زيارته التى اختتمها بجولة في سواكن. غير أن الملحق الذي لم يبح أردوغان بمحتوياته في ذلك الوقت - وهو بناء قاعدة عسكرية في سواكن - كشفته تطورات متلاحقة عقب زيارته للسودان بدأت بزيارة رئيس الوزراء التركي هاكان جاويش للسودان في شهر فبراير من العام الماضي حيث أجرى مباحثات قيل إنها تناولت ترميم الجزيرة السودانية، غير أن جاويش قال مجيبا على سؤال حول إقامة علاقات عسكرية مع السودان: "لا نستطيع أن نقول إن العلاقات تصب في اتجاه واحد، فعلاقاتنا ممتدة إلى كافة المجالات الاقتصادية والسياسية، والتعاون العسكري وارد وتحت التقييم". وبدا واضحا أن أنقرة أكملت عملية التقييم تلك على عجل وأوفدت وزير الدفاع التركي خلوصي أكار ورئيس الأركان جولار لزيارة جزيرة سواكن في شهر نوفمبر من العام الماضي، ومن ثم بدأت القوات البحرية التركية في تأسيس قاعدة عسكرية بحرية في الجزيرة. مثلث الشر العسكري يستخدم ميناء جزيرة سواكن، والذي يُعَد الأقدم في السودان، في الغالب لنقل المسافرين والحجاج والمواشي والبضائع إلى ميناء جدة في المملكة العربية السعودية. وبإنشاء القاعدة العسكرية في هذه الجزيرة سعت أنقرة إلى إكمال زوايا مثلث "الشر" التركي الذي تقوم قواعده أيضا في قطروالصومال ويقع على تماس مع الخط الملاحي البالغ الأهمية لمرور ناقلات البترول عبر البحر الأحمر وقناة السويس، كل ذلك في إطار خارطة التمدد التركي بالشرق الأوسط، ومحاولة مستحيلة لسيطرة أنقرة على العواصم الإسلامية وصولاً لاستعادة إمبراطوريتها البائدة. وتمثل قطر الزاوية الثانية في مثلث الشر التركي، وتضم قاعدة عسكرية تعرف باسم "قاعدة الريان" وكان يتواجد بها نحو 300 عنصر تابع للقوات التركية. وفي الأيام الأخيرة شهدت القاعدة زيادة كبيرة في أعداد الجنود والمصفحات والمدافع، وعقب إعلان المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع علاقاتهم مع الدوحة في شهر يونيو 2017م كشرت أنقرة عن أنيابها وكشفت عن نواياها التوسعية التى فضحها مقال كتبه مستشار أردوغان، ياسين أقطاي إبان المقاطعة مباشرة وتداولته وسائط الإعلام التركية، ادعى فيه أن حصار قطر هو مقدمة لحرب أهلية إسلامية، وأن دفاع بلاده عن قطر هو دفاع عن العالمين الإسلامي والعربي. ومن هنا يتأكد أن أنقرة قفزت على الأزمة القطرية بقصد الاندساس في شؤون الدول الخليجية والعربية أولا والبقية تأتي، وهذا ما فسرته سرعة موافقة البرلمان التركي، حينها، على نشر قوات تركية في الدوحة، في قرارات غريبة ومريبة نابعة من استراتيجية استعمارية تؤكد أن تركيا عاجزة عن التخلص من عقدة تنصيب نفسها حامية لدول تمتلك كامل سيادة قراراتها، وعجزت عن استيعاب حقيقة سقوط الإمبراطورية العثمانية. أما الصومال التى تكمل الزاوية الثالثة في مثلث الشر العسكري التركي فإنها تحتضن قاعدة عسكرية في قلب عاصمتها مقديشيو. وتضم هذه القاعدة المسماة "القرن الإفريقي" 200 عنصر عسكري تركي و3 مدارس عسكرية، وتجاور الصومال دولة جيبوتي التى تضم قواعد عسكرية أميركية وفرنسية وصينية ويابانية وإيطالية. وبإنشاء هذه القاعدة تكون القوات المسلحة التركية قد اكتسبت نفوذا كبيرا بين البصرةوعدن، ما يشكل تهديا مباشرا لدول المنطقة والقرن الإفريقي. ونشر موقع "أحوال تركية" الإلكتروني المعارض ثلاثة مقالات لكتاب مختلفين، اتفقت حول نقاط بعينها، فحواها أن إنشاء القواعد التركية في قطروالصومال والسودان تحت ذريعة استعادة مجد الإمبراطورية العثمانية تنطوي على تهديد خطير لمنطقة البحر الأحمر وخليج عدن، والتي تشكل أولوية أمنية لدول المنطقة ولمصر والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص. صمام الأمن العربي ظل أردوغان الذي يرأس حزب "العدالة والتنمية"، يؤكد في عدة مناسبات أن الأتراك يتشبثون بميراث الأجداد في كل مكان، بدءاً من آسيا الوسطى وأعماق أوروبا، وانتهاء بجزيرة سواكن السودانية. وكانت آخر تلك التصريحات ما أدلى خلال اجتماع تعريفي بمرشحي الحزب للانتخابات المحلية المقررة في 31 مارس المقبل، حيث قال مشيرا إلى المسلات المكتوبة بالأبجدية الأورخونية التركية القديمة في منغوليا، "إننا نتشبث بميراث الأجداد في كل مكان، بدءا من آسيا الوسطى وأعماق أوروبا، إلى جزيرة سواكن في السودان. وتحمل هذه التصريحات أكثر من دلالة وإن حاولت تركيا أخفاءها تحت ستار ترميم الآثار العثمانية، إذ أشار أردوغان إلى أن الأتراك يهتمون كثيرا بالقدس ومكة والمدينة المنورة وبقية المدن التى هي رموز للحضارة الإسلامية. وبثت قناة "أخبر" التلفزيونية المملوكة لعائلة أردوغان برنامجا حول القواعد العسكرية أشار فيه الصحفي أرجون ديلار إلى أن المنطقة العسكرية التى تؤسسها تركيا في الصومالوقطر وسواكن تشكل شريان طريق الحرير خاصة بعدما تتحول سواكن إلى منطقة عسكرية بنسبة 99 % كما هو مخطط لها. وتطرق البرنامج إلى تقييمات خبراء عسكريين أكدوا خلالها على ضرورة إنشاء قواعد في شكل مثلثات للسيطرة على المناطق التى تقع في محيطها. غير أن الدول العربية والإفريقية المشاطئة للبحر الأحمر وجهت ضربة عنيفة لمخططات أردوغان الرامية إلى أن تكون له كلمة مسموعة في الشرق الأوسط، وما تدخلها الحالي في ليبيا ببعيد، وهي ضربة كفيلة بتوفير الأمن والاستقرار في محيط هذه الدول. فقد تواثقت كل من المملكة العربية السعودية ومصر والأردن والسودان وجيبوتي واليمن والصومال وإرتريا خلال اجتماع عقد بالرياض في السادس من شهر يناير الحالى على تأسيس "مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن" بهدف تطوير التعاون المشترك بين هذه الدول بما يعزز الأمن والاستقرار في المنطقة. وسيباشر المجلس مهامه من مقره بالرياض. وسبق هذه الضربة ضربة أخرى لا تقل عنفا، وجهها السودان لأردوغان عقب سقوط حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير عندما أعلنت الخرطوم في شهر أبريل الماضي قرارها بإنهاء العمل باتفاقية سواكن، وقال عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي الحاكم في السودان في تصريح لصحيفة "الإندبندنت" البريطانية في 22 سبتمبر الماضي: إن الرئيس المخلوع عمر البشير كان يستخدم سواكن كأداة لابتزاز الأشقاء ودول الجوار، وأن ذلك حدث مع السعودية ومصر وغيرهما، مؤكدا على أن "السودان لن يسمح بأي وجود عسكري في بلاده، وتحديداً على البحر الأحمر". وخلص البرهان إلى القول: "لدينا تفاهم جيد، وعلاقات قوية وراسخة مع الأشقاء في المملكة العربية السعودية، ومن المستحيل أن يصدر أي فعل من السودان يضرّ بأمنهم الوطني". يلاحظ هنا أن زاويتين من زوايا مثلث الشر، في الصومال والسودان، انضمتا إلى "مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن"، الأمر الذي قد يدفع بتركيا إلى إعادة النظر في "مبادرة إفريقيا" التى أطلقها أردوغان في العام 1998م تحت مسمى "خطة الانفتاح على إفريقيا"، وهي خطها كان ظاهرها تمتين العلاقات الاقتصادية والسياسية مع أنقرة وباطنها توسيع النفوذ العسكري في القارة السمراء. وربما يفسر هذا التحول سر الإحباط الشديد الذي يشعر به أردوغان إلى الحد الذي جعله يصف التغيير الذي حدث في السودان عقب سقوط حليفه البشير وفقدانه سواكن بأنه "انقلاب استهدف تركيا بالفعل"، ويبدو أن الوقت قد حان الآن ليستعيد أردوغان حقيقة غابت عنه، وهي أن سواكن ترتبط في أذهان السودانيين بمقاومة المستعمر العثماني "سيّئ السمعة" الذي تكتظ الجزيرة بآثاره. مثلث الشر العسكري التركي وزراء خارجية الدول الموقعة على «ميثاق الرياض»