قرأت مؤخراً خبايا حياتنا من منظور مختلف، منظور يخص أسرتنا السعيدة التي هي اللبنة الأولى في تكوين مجتمعنا بحيث تقوّم سلوكنا الذي يعطي أثراً محموداً ضمن مسيرتنا نحو العلا، كيف لا ونحن نجد ولاة أمورنا يسعون جاهدين لبثّ روح المحبة والتآلف بين أبنائنا صغاراً وتوجيه كبارنا بتعديل مفاهيم قد ورثوها، ولنا في القيادة التاريخية مثلاً يُحتذى للاعتماد على أنفسنا في فهم مجريات أمورنا والعمل على رقيها. وهنا لا بدّ من العودة إلى الأسرة، فالملاحظة والمتابعة تقودان إلى التعديل السلوكي الذي بدوره ينتج إنسانا فاعلاً، فهذا رجل يتفانى في تأمين العيش الرغيد لعائلته، ثم يُفاجأ بأنّه في الدرجة الثانية من حيث حب الأبناء له فمن حيث المبدأ.. نحن متساوون في الحقوق والواجبات، بل في ساعات المكوث في البيت أيضاً، وهنا يخبرنا المقال أن مهنتي ككاتب لا تتطلب مني الخروج اليومي إلى العمل، ولا الذهاب إلى الصحيفة، ولا الالتزام بالجلوس خلف المكتب من الثامنة إلى الثالثة كالموظف المعتاد، فغالباً أقضي نهاراتي في البيت، الزوجة تفكر في طبخة العيال، وأنا أفكّر في طبخة المقال.. هذا الجلوس الطويل كشف لي عن أهمية "ظل الراجل" في البيت، فعندما يحضر الأولاد من المدرسة ينحنون نحو اليسار إلى المطبخ بحثاً عن أمهم، ولا ينحنون إلى اليمين حيث مكتبي بحثاً عنّي، رغم أن مكتبي مقابل للمطبخ تماماً، لا أتوقّف كثيراً حول هذا "التطنيش"، أحياناً أسمع أمهم تقول لهم: "سلمتوا على أبوكم؟.. روحوا سلموا".. بين هذا الطلب وتنفيذه يستغرق الأمر من ربع إلى نصف ساعة، ولا أتوقف كثيراً حول هذا "التطنيش" أيضاً.. فالدنيا زحمة، والطرق المؤدية من المطبخ إلى غرفتي تشهد ازدحاماً مرورياً كبيراً، بسبب "حلة المدارس"، وقد يستغرق منهم الوصول إليّ وقتاً أطول.. في نهاية المطاف يصلون نحوي فرادى وبقبلٍ باردة ممزوجة بطعم الشيبس الحار وعلكة الفراولة، بعد أن يكونوا قد أكلوا ما أحضروه من مدارسهم. الخميس الماضي، وفور وصول أكبر الأبناء، خرجت بالصدفة من مكتبي لأرتدي سترة من غرفة النوم فوجدته يقف في المطبخ يهمّ بمناولة "الست الوالدة" شيئاً ما، وعندما رآني تراجع وأخفاه خلف ظهره، فأكملت طريقي دون انتباه.. وعند العودة ضبطته وهو يضع قربها "أصبع شوكولاتة" فاخراً قد اشتراه لها من مصروفه، وعندما رآني خجل مني ولم يعرف كيف يتدارك الموقف، ثم بعد ثوانٍ حاول أن يخرج من جيب بنطاله "الجينز" حلوة على "ليمون" كانت ملتصقة في قعر الجيب بالكاد أخرجها، وعليها بعض قطع المحارم محاولاً إهدائي إياها شكرته وأعدتها إلى جيبه.. أنا لا أتوقف كثيراً حول هذا "التمييز العنصري"، صحيح أن الشوكولاتة التي اشتراها لأمه لذيذة جداً، ونفسي فيها إلى هذه اللحظة، لكنني لا أنزعج من ميلهم كل الميل نحو أمهم، فقد كنا مثلهم وأكثر، رغم كدّ الأب وسفر الأب وتعب الأب وحنان الأب، إلا أن الجنوح يكون نحو الأم، وهذه طبيعة فطرية لا نتحكّم فيها! الغريب أن الأولاد لا يكتشفون حبّهم الجارف لآبائهم إلا متأخراً، إما بعد الرحيل، وإما بعد المرض وفقدان الشهية للحياة..! وهذا حب متأخر كثيراً حسب توقيت الأبوة. الآن كلما تهت في قرار، أو ضاق عليّ طوق الحياة، أو ترددت في حسم مسألة.. تنهّدت وقلت: "وينك يابا".. لو أعرف أن العمر قصير إلى هذا الحد، لكنت أكثر قرباً منك! تعليق نحن نعرف قيمة الملح عندما نفقده في الطعام، وقيمة الأب عندما يموت ويشغر مكان جلوسه في البيت، إذ عندما يموت يفتقد الأبناء وجود ذلك البطل في حياتهم الذي كان يقودهم بثبات إلى بر الأمان، فالأسرة كلها مع الأب في رحلة الحياة كراكبي قطار في سفر طويل، لا يعرفون قيمة قائد القطار إلا عندما يتعطل بهم، ويبدأ قائده في التفاني لإصلاحه وإعادة تشغيله رغم ضخامته. الأب وحده الذي لا يحسد ابنه على تفوقه، بل بتفوقه يتباهى، والأب وحده الذي يخفي أخطاء ابنه ويغفرها وينساها، والأب وحده الذي يتمنى أن يكون ابنه أفضل منه في حياته، تأنيب الأب لابنه مؤلم في حينه، لكنه دواء ناجع حلو المذاق بعد التعلم منه والتماثل للشفاء والاستقامة، تأنيب الأب يصدر من جوار قلبه لا من جدار قلبه، إذ يتألم وهو يؤنب ابنه. قلب الأب هبة الله الرائعة لأبنائه، أخيراً أقول: الأم تحب من كل قلبها، والأب بكل قوته، (رب ارحمهما كما ربياني صغيراً).