لا يدري ماهر كيف نجا من طلقة مرقت جنْبَ أذنه. كان يمكن أن تثقب رأسه وتخترق عينه اليسرى. هذه أول مرة يلتحم فيها جيشهم مع جيش العدو وجهاً لوجه. وقد أفلت هو وفريقه من التطويق، وبالتالي من الأسر، بأعجوبة. ومنذ أشهر أصبحت كفة العدو راجحة، وصارت جبهتهم تعاني خسائر مستمرة بالرغم من استرجاع الفاو. وماهر، على أي حال، كان يائساً من اللعبة كلها. ماذا سيجني من هذه الحرب السخيفة؟ فهو «عدو» حتى داخل خط الجبهة، وفي وطنه العراق، لأنه يساري، وفي عرف السلطة شيوعي. وربما كان من حسن حظه أنه وجد نفسه مع عدد غير قليل من زملائه مطوَّقين، لكن هذه المرة بإحكام. وسرعان ما تم أسرهم. إنهم الآن تحت رحمة العدو، ويسمعون الأوامر باللغتين الفارسية والعربية، لكنها أوامر لا تخلو من عجرفة وتبطن إحساساً بالتشفّي والانتقام، فالعدو موجوع من معاملة العراقيين المفرطة في نبرتها العرقية. سألوه إن كان شيعياً أو سنياً. إنهم لا يختلفون عن المسؤولين في وطنه. ووجد نفسه حائراً في الإجابة، فهو لا يعير وزناً لهذه الفوارق، ثم إنه لا يدري أهو سني أم شيعي، فأبوه سني وأمه شيعية، وأخبرهم بذلك، لكنهم اعتبروه سنياً، ولم يصغوا الى اعتراضه. أخذوهم الى مخيم للأسرى، وبقوا ثمانية أشهر في خرمشهر. ثم قَدِمَتْ إليهم جماعة من العاملين في منظمة حقوق الإنسان. كانوا ألماناً. ووقع اختيارهم عليه مع سبعة آخرين للُّجوء الى ألمانيا. لقد تقرر مصيره إذن، لكن ماذا سيكون حال أمه؟ هل ستنجو من مضايقات السلطة؟ أقلته طائرة الى فرانكفورت. كان قبل ذلك قد سافر الى باريس مع أمه ليتسلما المبلغ الذي كان مودعاً من قبل أبيه في أحد البنوك. كان أبوه مقاولاً، لكنه عومل كعدو لأنه كان يسارياً، وصادروا كل ما كان يملكه من أموال منقولة كانت مودعة في البنوك العراقية. أما ما كان مودعاً في باريس فلم يكونوا على علم به. وهذا المبلغ ما زال في باريس. وفكر في أن يستفيد من هذا المبلغ ليهرِّب أمه به الى ألمانيا. من فرانكفورت نقلوه الى مخيم في هاناو، وأبقوه فيه ستة أشهر استطاع في أثنائها تعلم مبادئ اللغة الألمانية. وأوجدوا له عملاً في مخبز. وهو لم يتم الجامعة لدراسة الهندسة المدنية في الوطن، لأنهم جندوه قبل ذلك. كان صاحب المخبز رجلاً طيباً. اقترح على ماهر أن يتعلم إعداد كعكة الشترودل الألمانية والنمسوية (كعكة التفاح)، مع أصناف أخرى من الكيك. لقد توسم في ماهر شاباً مجداً وذكياً ومتعاوناً. وذات يوم شاهد ماهر رجلاً يقود ابنته الصبية بيده ويدخل معها المخبز، ثم يقف أمام صاحب المخبز ويقول له: «هذه إيزولدة، ألتمس منك أن تجد لها عملاً عندك، وتدبر أمر سكنها، لأنني لم أعد أتحمل إطعامها. وأنا جئت بها إليكم بعد أن قرأت إعلاناً حول وجود شاغر عندكم». «كم عمرها؟» «18 عاماً». «طيب». وتركها أبوها في عهدة صاحب المخبز. وحين طلب منها صاحب المخبز أوراقها، تبين له أنها في السابعة عشرة من عمرها. نادى صاحب المخبز ماهر وروى له القصة، ثم طلب منه أن يكون في حمايتها، فقال له ماهر: «وكيف أكون في حمايتها؟»، «سأشغِّلها أنا هنا، وسألتمس منك أن تكون في حمايتها إذا تعرضت الى مضايقات. وأنا سأُعِدُّ لها مكاناً لتنام فيه في المخبز». بعد انتهاء ساعات العمل، اقتربت إيزولدة من ماهر ووقفت الى جانبه، فرأى أن يصطحبها الى مقهى لتبادل الحديث عن حياتها وماضيها، ثم يعود بها الى المخبز. وفي المقهى طلب لها وله قهوة، مع لفتي ساندويش لهما كعشاء. ووجدها سعيدة بصحبته. قالت له: «ماهر، هل ستبقى دائماً في حمايتي؟»، «نعم، إيزولدة»، «شكراً، ماهر، أنا أرتاح اليك»، ثم قال لها ماهر: «والآن حدثيني عن نفسك وعن حياتك». قالت له: «أنت شاهدت أبي. إنه لا يحمل ذرة شعور بالأبوة. إنه إنسان لا قلب له، ولا يعتبر نفسه مسؤولاً عني. المشكلة هي أنه كان على خلاف مع أمي. أمي كانت ترتاح الى النظام الشيوعي السابق. نحن كنا في ألمانياالشرقية. كانت أمي معلمة، وتربت على الفلسفة الشيوعية، وكانت مرتاحة جداً لبرامج التعليم في ألمانياالشرقية. أما أبي، فهو من محبي هتلر، وكان يتخاصم معها. وعندما كبرت أنا، كان يفرض على أمي أن تكون هي مسؤولة عني مالياً، مع أنها فقدت عملها بعد التوحيد، وصارت تستلم المعونة الحكومية فقط. لهذا اصطحبني معه الى القسم الغربي وأقمنا أياماً عند عمتي (أخته)، ثم عندما لم تعد استضافتنا ممكنة، جاء بي الى هنا». كانت إيزولدة تأكل ساندويشها بنهم، فسألها ماهر إن كانت تحب أن تأكل ساندويشاً آخر، فابتسمت ونادت برأسها. طلب لها ساندويشاً آخر، وأخذ يفكر في الالتزام الذي ألزمه به صاحب المخبز تجاهها. إنه لا يريد ان يرتبط بها بعلاقة وثيقة، لأن لديه فتاة في العراق تنتظره. ألقى عليها نظرة عندما كانت منشغلة في تناول ساندويشها الثاني. إنها ألمانية مئة في المئة. وكل مواصفاتها تدل على انها من منطقة بروسيا، التي يتميز أبناؤها بالشقرة وزرقة العينين. وهي جميلة، لكنها لا تعتبر فاتنة. وشأن معظم الشماليات، كانت أسنانها الأمامية (القواطع) بارزة بعض الشيء. قال لها: «اسمعي، إيزولدة، سأعود بك الى غرفتك. وفي يوم السبت القادم سنقضي النهار في مركز المدينة لنشتري لك ما تحتاجينه من أشياء، ونتغدى في أحد المطاعم...». شكرته قبل أن يتم كلامه، ثم أردف: «وفي يوم الأحد سآتي الى المخبز لأصطحبك الى بيتنا لأعرفك الى أمي، ونتناول وجبة طعام شرقية من إعداد أمي». همّت بأن تترك مقعدها لتقبِّله، إلا أنه قال لها: «لا حاجة بك الى ذلك، إيزولدة». وأمام غرفتها قبَّلها من وجنتيها وودعها، إلا أنها قالت له بتضرع: «ماهر، أنا أخاف أن أبقى وحدي في المخبز»، «لكنكِ يجب أن تعتادي على ذلك»، «ليس الآن، ماهر. تعال ادخل معي الى الغرفة، أرجوك»، «طيب، لكنني لن أمكث طويلاً»، «أرجوك، ماهر، هل تعتقد أنني أستطيع أن أبقى وحدي في هذه الغرفة الموحشة. أنا أخاف، ماهر». فكر في نفسه، إنها مُحِقّة، ولا بد، على أية حال، من تدبير تلفزيون لها، ولو مما يُلقى به على الرصيف. ثم ماذا ستفعل الليلة. قال لها: «طيب، سأبقى معك الى أن يلم بك النعاس». ومن غرفتها، اتصل بأمه بواسطة تلفونه النقال وأخبرها بأنه سيتأخر في العودة الى البيت. والتمست منه إيزولدة أن يحدثها عن أي شيء، لكي تبقى منشغلة البال، فسألها إن كانت تحب أن تقرأ الروايات لتشغل وقتها بها، فأجابته بأنها لم تقرأ رواية في حياتها. لكنه أكد لها أنها ستجد متعة في قراءة الروايات. «لكنها لا تطرد عني الخوف، ماهر»، «إيزولدة، سوف تعتادين على البقاء في الغرفة وحدك. لا تعيدي عليّ حكاية الخوف، ولا تنسي أنني سأكون معك في النهار، وبعض الوقت في الليل، لكنك نفسكِ لا ترتضين أن أقضي كل وقتي معك!»، «أنا آسفة، ابق معي الليلة فقط»، «إيزولدة، سأبقى معك الى أن يدركك النوم»، «طيب، ماهر، شكراً». لكن النعاس لم يدركها حتى ساعة متأخرة من الليل. يا إلهي، ماذا سأفعل مع هذه القاصرة؟ أخيراً فقد أعصابه، وقال لها: «إيزولدة، أنا سأخبر صاحب المخبز بأنني سأتخلى عن مسؤوليتي تجاهك». رمت بنفسها عليه، وقالت متضرعة: «لا، ماهر، أرجوك، أنا لا أريد رجلاً غيرك أكون في حماه»، «طيب، إذن، راعي وضعي، وكوني فتاة شجاعة»، «طيب، ماهر، هل تريد أن تتركني الآن؟»، «نعم»، «اتركني، إذن». وقبَّلها من وجنتيها، وتمنى لها ليلة سعيدة، مؤكداً أنه سيراها صباح يوم غد. وعاد الى بيته. فتلقته أمه قلقة، فأخبرها بأنه سيوضح لها الأمر في ما بعد، لأنه يريد أن ينام الآن. في صباح اليوم التالي تحدث مع صاحب المخبز بأن يناشد بقية العمال من أجل الحصول لها على تلفزيون، وبعد يومين أصبح في غرفة إيزولدة تلفزيون، واستعار لها ماهر عدداً من الروايات من مكتبة الحي. وفي يوم السبت ذهبا الى مركز البلدة لشراء حاجات لها، وتناولا غداءهما في مطعم. وشربت إيزولدة قنينتي كولا. ولاحظ ماهر أن بها رغبة لتناول الحلويات بكثرة. وفي صباح يوم الأحد ذهب ماهر إليها ليكون في صحبتها بعض الوقت، ثم يرافقها الى البيت. استقبلته بكل أمائر البهجة، وقالت له إنها قرأت صفحات كثيرة من رواية «آيفنهو»: «شكراً، ماهر، بقيت أقرأ فيها الى أن أدركني النعاس. وكان التلفزيون نعمة، إنه يجعلني أشعر أنني أعيش بين الناس». وقبيل الظهر، اصطحبها معه الى البيت، فاستقبلتها أمه بالعناق. كانت شقتهما متواضعة، لكنها لا تخلو من الأشياء الأساسية، بما في ذلك أرائك الجلد الاصطناعي، ودولابان، مع سرير له يسع شخصاً واحداً. وفي غرفة أخرى تنام أمه. وهي في الأصل مطبخ قد نُقل الطباخ والثلاجة منه الى الممر. قدمت أمه لها وله عصيراً في البدء، وبعد ذلك قهوة مع شوكولاته. وكان ماهر يقوم بمهمة الترجمة. لاحظت أمه أنها «حلوة»، لكن ما الفائدة، فسميرة تنتظره في العراق. ولم ترتح لذلك، لأنها لاحظت تعلق إيزولدة الواضح بماهر. كان الغداء يشتمل على مرقة باذنجان بلحم الضأن، مع رز، وكباب مقلي، وسلطة. أكلت إيزولدة بشهية عالية. كانت هذه أدسم وألذ وجبة تتناولها في حياتها. والتهمت كمية لا بأس بها من البقلاوة. وشكرت ماما أمينة على هذه الوجبة الشهية. ثم عاد بها ماهر الى غرفتها. وفي المساء عاد إليها ليمضيا بعض الوقت خارج المخبز، في المقهى. وهناك صارحته إيزولدة بأنها صارت تحبه، ولا تريد أن يعاملها كقاصرة: «لماذا تُميت مشاعرك العاطفية تجاهي؟ أنا أحبك، ألا تحبني؟»، كان ماهر يخشى هذه المكاشفة ويتوقعها. أطرق لحظات، ثم قال لها: «لكن إيزولدة، هناك فتاة في العراق تنتظرني». بكت إيزولدة، وقالت له: «لا تقل لي ذلك، ماهر. أنت أصبحت لي بمثابة أب وأم وحبيب». «إيزولدة، دعيني أفكر في الأمر»، «ماهر، لا تخذلني، فليس عندي سواك»، «وهذا هو سر عذابي». عندما عاد الى البيت أخبر أمه بما فاتحته به إيزولدة، فضربت أمه كفاً بكف، وقالت: «هذا ما كنت أخشاه». وأضافت: «لكن ماذا عن سميرة، يا بني؟»، قال لها: «أخبرت إيزولدة بذلك، فبكت، وناشدتني بأن لا أتركها. فأنا أصبحت بمثابة أب وأم وحبيب لها». «هذا يُعقّد الأمر». ونظرت الى صورة سميرة، إنها جميلة، ولعينيها جاذبية. وأضافت: «ثم أنها تنتظرك منذ سنوات». «لا تعذبيني، مام. أنا أعلم أنها تنتظرني منذ سنوات. لكن ضعي نفسك في مكاني، يا أمي». «أنا أقدِّر موقفك، يا ابني». « المشكلة يا أمي هي أنني لا أستطيع سوى أن أضحي بواحدة منهما، وسميرة لن تنهار حياتها، مثل إيزولدة، إذا تخليت عن وعدي لها». قالت أمه: «هذا صحيح، يا ابني، لكن ماذا سنقول لسميرة وأهلها؟»، «على أية حال، نحن لسنا في عجلة من أمرنا»، «لكن حتى متى تبقى سميرة في الانتظار؟»، «تلك هي المشكلة، مام. وأرجو أن نترك الموضوع الآن، رحمة بحالي». صباح اليوم التالي، ذهب ماهر الى العمل، فوجد عيني إيزولدة محمرتين، وحين قبَّلها من وجنتيها احتوته بيديها وقالت: «لا تتركني، ماهر»، «لن أتركك، إيزولدة». فقبَّلته من شفتيه لأول مرة، وقالت له: «هل أستطيع أن أثق في كلامك، ماهر؟»، «نعم». قبلته مرة ثانية، وانصرفا الى عملهما. بقي ماهر ذلك النهار مكتئباً، ولم ينجز عمله بكفاءة، فسأله صاحب المخبز إن كان هناك شيء يقلقه. أخبره ماهر بجلية الأمر: أنه ضحى بفتاة في العراق من أجل إيزولدة، ولا يدري كيف سيتصرف مع إيزولدة التي تمارس الآن إحساساً بالسعادة، لأنه يود لو يكف عن اللقاء بها، اليوم على الأقل. فقال له صاحب المخبز: «أنا آسف لأجلك، وسعيد لأجل إيزولدة. مع ذلك أنا أعتقد أنك اتخذت القرار الصحيح». «المشكلة هي أنني لن أستطيع الابتسام لإيزولدة»، «سأدعوكما الليلة الى البيت لأفرِّج عن همك»، «شكراً، لكنني لا أعتقد أن هذه الدعوة ستنسيني الأذى الذي سأُلحقه بفتاة أخرى»، «المسألة، يا صديقي، أنك لا بد أن تضحي بإحداهما»، «لكن لا تنسَ أن إيزولدة طفلة»، «نعم، ولأجل هذا أنت لا تستطيع التخلي عنها»، «تلك هي المسألة». لم يخفف اللقاء في بيت صاحب المخبز من ابتئاس ماهر، وطلب من إيزولدة أن تتركه لحاله بضعة أيام، لأن القرار الذي اتخذه من أجلها سبَّب له كآبة حادة من أجل الفتاة الأخرى، فسألته إيزولدة: «وهل ستتخلى عني؟»، «لا، إيزولدة، أنا لا أستطيع التراجع عن كلمتي لك»، «شكراً، حبيبي، سأراعي شعورك».