يغامر الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في هذه الآونة بدسّ أنف «العثمانية الجديدة» في شؤون الدول العربية وقضاياها، وخصوصًا في ليبيا، وهذا أمر يشهد عليه العالَم بكامله، ويقف منه عقلاؤه ومدركو عواقب الأمور موقف الاستهجان والاستغراب. إن تاريخ العثمانيين مع الليبيين، خصوصًا في مراحله الأخيرة، لم يكن تاريخًا مشرّفًا ولا مكتوبًا بماء الذهب، فقد بدأ أمارات تعسف الباشوات العثمانيين تظهر في أرض ليبيا منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، إبان مدة حكم الأسرة القرة مانلية، وظهرت في ليبيا المجاعة، وانتشر الطاعون، وعجزت الحكومة التابعة للعثمانيين عن دفع مرتبات الجند، ولجأ رجال الباشا إلى جمع الأموال من القبائل، ودبت النزاعات بين أفراد الأسرة القرة مانلية، واتفق المؤرخون على أن مدينة طرابلس كانت في أسوأ حال كما يوضح ذلك كتاب «الدولة العثمانية والمغرب العربي» لمؤلفه الدكتور عبدالمنعم الجميعي. وخلال مدة حكم يوسف باشا طرابلس كانت له علاقة ودية بفرنسا، وساند الحملة الفرنسية على مصر، ورتّب أمر نقل الأسلحة والذخائر الفرنسية من طريق ليبيا إلى مصر بعد تدمير أسطول الفرنسيين في معركة أبي قير، وأسهم في إطالة بقاء الفرنسيين في أرض الكنانة. وبين عامي 1835 و1911م شهدت ليبيا تحت حكم العثمانيين من المهازل ما شهدت، وكان أول ما فوجئ به العثمانيون نفور زعماء القبائل الليبيين منهم، ورفض الأهالي أداء الإتاوات والضرائب التي فرضتها السلطنة عليهم، وأظهروا رغبتهم في التمسك بالحكم الذاتي لمناطقهم، ولم يجد العثمانيون ما يداوون به ذلك سوى القتل والتنكيل، اللذين كان لهما أثرهما البالغ في استسلام المناطق وخضوعها للأمر الواقع، وخلال ذلك انتشر وباء الطاعون، وارتفع عدد ضحاياه، في ظل جو عسكري صارم تمثل في سياسة القوة والحكم بالحديد والنار، وذلك ما دفع كثيرًا من السكّان إلى الهجرة. لقد صرف ولاة العثمانيين في المدة المذكورة وقتهم في ليبيا في إخماد الثورات عليهم في مصراتة وفزان ويفرن، وزاد الطين بلة تعرض السكان للمجاعات بسبب قلة الأمطار وانتشار الجفاف، إلى أن أخذت الأمور في التحسّن بعض الشيء، وكادت الأحوال تستقر وتعود المياه إلى مجاريها، لكن القلاقل لم تلبث أن عادت، ولم يكن العثمانيون قادرين على إدارة ليبيا بطريقة سليمة؛ ذلك أن اهتمامهم كان منصرفًا إلى جمع الإتاوات والمكوس، في وقت قلّت فيه الأموال في أيدي دافعيها، ولم تقم السلطنة العثمانية بإصلاحات تذكر لتحسين المواصلات أو التعليم، ولا القضاء على الأوبئة، ولا الاهتمام بالصحة العامة. ونتيجة لضعف الدولة العثمانية واضطرابها في أواخر أمرها في مطلع القرن العشرين تطلعت إيطاليا للسيطرة على ليبيا، ومهّدت لذلك بمدّ نفوذها الاقتصادي والثقافي، فحصلت على امتيازات بفتح فرع لبنك روما في طرابلس وبرقة، ونشطت في الرهن والتسليف مع الأهالي، وفتحت مدارس مجّانية بقصد نشر الثقافة الإيطالية، ونشرت المستشفيات والملاجئ للمرضى والفقراء، وأنشأت مكتبًا للبريد في بنغازي، وكثّفت إرسال البعثات العلمية لاكتشاف المناطق الليبية الداخلية ومسح أراضيها، ولم تقم الدولة العثمانية بأي عمل جدّي لوقف التوغل الإيطالي في العمق الليبي، بحسب ما يؤكده المؤرخ الجميعي. وأمام سمع العثمانيين وبصرهم بدأت إيطاليا التنديد بسياسة الأتراك في ليبيا، وطالبتهم بضرورة إصلاحها، وأعلنت مطالب لها على رأسها: خروج العساكر العثمانية من طرابلسوبنغازي ودرنة، وتشكيل قوات عسكرية في هذه المناطق تحت قيادة ضباط إيطاليين، ووضع إدارة الجمارك الليبية تحت إدارة موظفين إيطاليين، وأن يتم تعيين والي طرابلس بموافقة إيطاليا ورضاها! يقول الجميعي: ولم تكتف إيطاليا بذلك، بل وجهت إنذارًا إلى الدولة العثمانية تتهمها فيه بعدم النهوض بليبيا وتجاهل مطالبها، ثم وجهت أوامرها إلى السفير الإيطالي في الآستانة بالحصول على رد من الحكومة العثمانية في 24 ساعة، وإلا فإن إيطاليا مضطرة إلى احتلال ليبيا! لكن رد السلطنة كان ضعيفًا، فذكرت أنها بريئة من هذه التهم، وأنها نواياها حسنة تجاه إيطاليا ومشروعاتها، ودعتها إلى التفاوض والحوار السلمي! وانتهى الأمر باحتلال إيطاليا ليبيا، وعقدت معها الدولة العثمانية معاهدة «أوشي لوزان» التي انسحب العثمانيون بمقتضاها من ليبيا في 18 أكتوبر من عام 1912م. فإذا كان ذلك هو ماضي العثمانيين في ليبيا، فماذا يُتوقع أن يكون حاضرهم فيها؟! لقد أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. *باحث وروائي أردوغان والسراج من الغزو الإيطالي لليبيا