سِيَرُ العلماء وتراجمهم مليئة بالمتاعب التي تحمّلوها في تحصيل العلم والرحلة فيه، وتدوينه وتعليمه، ولم يُثبِّطْ شيءٌ من ذلك عزائمهم، بل يعمل كل منهم وينجز مهما كانت ظروفه، فإن كان ممن قُدِرَ عليه رزقه، وابتُلي بالفقر لم يُقعِدْهُ البؤس عن الطلب، ومن فُتِحَ عليه منهم، ورُزِقَ المال لم يشغله ذلك عن الطلب والتحصيل.. يُخيّلُ إلى بعض الناس أن من شروط إنتاجه وعطائه واجتهاده في تكوين ذاته أن يكون بأتمِّ حالاته وأحسن أوضاعه، وافر الصحة، ممتلئ الجيب، مستقرّ الأوضاع الأسرية، لم يُكدّر صفوه مُكدِّرٌ، ولم يُضايقه في محيطه الخاص أو العام مُنكِّدٌ، فإن توفّر له مثل هذا الجوّ عمل، وجدَّ في بناءِ ذاته، ونفع غيره، وإلا انتظر اليوم الموعود الذي تُتاحُ له فيه هذه الراحة، وهذا خيالٌ فاسدٌ يُخلدُ بصاحبه إلى حضيضِ الفشل والضعف، ويجب على الإنسان أن يُجاهد نفسه لكي لا تترسّخ فيها مثل هذه القناعات، ومتى أحسّ بشيءٍ منها بادر إلى التخلص منه، وعليه أن يعلم أن قاعدة أهل الهمم العالية وذوي التميُّز والإنجاز أن العمر كله محلٌّ للإنتاج والعطاء وبناء الذات، ولا مجال للانحناء أمام المصاعب، والاستسلام للمتاعب، وأن ما يراه من الإنجازات المرموقة في العلوم والتجارات والسيادة إنما هو نتاجُ صعوباتٍ جمّةٍ خاضها رجال تُطاولُ هممُهُم الجبال الشمَّ، فالموفق من يُعطي وينفع على أية حال كان، ولديمومة العطاء والبناء نماذج مشرقة في كل المجالات ومنها: أولاً: الهداية والدعوة إلى الحق في جميع الأحوال، وذلك سنة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فقد كانت دعوتهم مستمرة رغم ما يتعرضون له من المشاقِّ والتحديات، وفيما قصّ الله علينا في كتابه من أنبائهم عبرة، وكذلك في سيرة نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام، وإذا رجعنا إلى ذلك وجدناهم يضطلعون بما كُلِّفوا به في جميع أحوالهم من عسرٍ أو يسرٍ، فلا العسر يُثبِّطُهُم، ولا اليسر يُلهيهم، دعوا إلى الله وعلّموا في ظلال الأذى وتسلط المدعوين، ودعا بعضهم في ظل الملك والسلطة. ثانياً: الصدقة والبرُّ والإحسان إلى الخلق، وهذه منفعةٌ لا يتوقف إنجاز بعض صورها إلا على قلبٍ طيّبٍ ينبض بالرحمة، ونَفْسٍ وُقِيَتْ الشُّحَ، وقد رأينا كيف يُنفق الكرام كيفما تيسّر لهم، لو لم يجد أحدهم إلا تمرةً يُفطِرُ بها لم يتردّد في إنفاقها على من يستحق، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ» متفق عليه واللفظ لمسلم، ولا تسأل عن ذوي المقدرة واليُسْر منهم كيف أنفقوا ونفعوا وبنوا. ثالثاً: العبادة، فالمتعبدون الذين وفقهم الله للاجتهاد في الطاعات لا تحول المشقة والضيق بينهم وبين العبادات، وفي حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في صلاة الجماعة: «وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ» أخرجه مسلم، فالعبّاد لا يُلهيهم شيءٌ عن عبادتهم، وقد يقع أحدهم في خطرٍ يُحدقُ به الموت بسببه، ولا يملك فرصةَ نجاةٍ في العادة، فلا يكون همُّهُ إلا أداء العبادة التي دخل وقتها، ففي ترجمة أبي نصر المروزي أنه غرق في البحر في بعض أسفاره، فبينما الموج يرفعه ويضعه إذْ نَظَرَ إلى الشمس قد زالت، فنوى الوضوء وانغمس في الماء ثم صَعَدَ فإذا خشبةٌ فركبها وصلّى عليها، ورزقه الله السلامة ببركة امتثاله للأمر، واجتهاده على العمل، وعاش بعد ذلك دهراً، فلم يُنْسِهِ هولُ الغرق تفقُّدَ الوقت، ولمّا علم بدخوله تعاطى ما تيسّرَ له من شروط الصلاة وشَرَعَ فيها. رابعاً: التعلُّمُ والتعليم، فَسِيَرُ العلماء وتراجمهم مليئةٌ بالمتاعب التي تحمّلوها في تحصيل العلم والرحلة فيه، وتدوينه وتعليمه، ولم يُثبِّطْ شيءٌ من ذلك عزائمهم، بل يعمل كل منهم وينجز مهما كانت ظروفه، فإن كان ممن قُدِرَ عليه رزقه، وابتُلي بالفقر لم يُقعِدْهُ البؤس عن الطلب، وقد كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه - وهو أوفر المكثرين من الصحابة حديثاً - يلاقي الجهد الشديد؛ لكيلا يشتغل بشيءٍ يشغله عن تعلُّمِ العلم، وفي تصوير حالته تلك يقول: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الجَائِي فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي، وَيُرَى أَنِّي مَجْنُونٌ، وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ مَا بِي إِلَّا الجُوعُ» أخرجه البخاري، ومن فُتِحَ عليه منهم، ورُزِقَ المال لم يشغله ذلك عن الطلب والتحصيل، فمنذ عصر الصحابة إلى يومنا هذا لم يزل من الناس ذو ثروةٍ لا تُلهيه عن التعلُّمِ والتعليم.