نخسر عقولنا حين نكثر من الجدل الساخن والفارغ الذي يكون طرفه ممتلئاً بالجهل. وحين يطول سيمتد الحمق في مثل هذا التحاور. وينكمش الرشد في مثل هذا التناقش، البعض يكابر ويغالط الحق فيلجأ للباطل لكي يثبت كلامه، أو يسوق الوهم والتلفيق ليؤكد رأيه، خصوصاً فيما قد يلامس القيم والثوابت، منهجنا يحثنا على أن نترك الجدل والمراء حتى لو كنا محقّين. وقد يكون ذلك لأن العلة فيما قد ينتجه وينتهي إليه تطويل الجدل بمكابرة، أو مشاحنة، أو فرقى. لا يسأل البعض حين يجادل لم أفعل ذلك. ولأي هدف أرجو؟ بل ينطلق بأحاديثه دون فهم لحالته، وحاجته فلا يسأل البعض حين يجادل أحدهم هل يجادلني لكي يعرف هو أو أعرف أنا؟ وهل نريد أن نصل إلى حقيقة ومؤكدة أم ينتهي الجدل بلا إقفال؟. ولا يسأل حين يجادل هل من يشاركني يملك نفس المرجعية التي نحتكم إليها لمعرفة الصواب من الخطأ، وفهم حقيقة ما نحكي عنه؟ كل ذلك لا يحصل فتجد أحدهم يجادلك ومرجعيته الدين والآخر مرجعيته العقل، وتجد آخر يجادل مرجعيته فهمه والثاني مرجعيته تجربته، وتجده يجادل ومرجعيته العلم، والآخر مرجعيته العمل، وطرف مرجعيته الفعل ومجادله مرجعيته رد الفعل.! مجالس تصخب بحالات الجدال المختلف في موضوعات مختلفة. حيث إن وعاء الجدل اتسع ولامس كثيراً من مساحات "الواتساب" الضيقة والمرتصّة بمجموعات بشر ما بين صاحب رأي وصاحب هوى، ومختلفي التوجه، والميول، والفكر، والقدرات، والاحتمال، والحسابات. مما ساهم في صناعة جدل مسطح، وتسطيح جدلي. وساعد على طبخ حوارات نيّة، وجدالات "هياطية". في مجموعات الواتساب خصوصاً لمن حظي بانضمامه إلى عدد كبير منها ستجده يتنقل من "قروب إلى قروب" فإن هدأت رسائل "الطقطقات"، وخيارات التعليقات، و"سواليف" العموميات. تصطدم بولوج قضية أو حدث وخصوصاً ما يتعلق بموضوعات جدلية فتحرك أحدهم، أو بعضهم وتستثيره الفكرة فيبدأ السجال، ويشرع الجدال، ويدشن المقال. وتتراكم العبارات، وتتقاذف الكلمات، ويحمى الوطيس ويشترك هذا، ويداخل ذلك، وينسحب ذاك. ويؤيد بعضهم، ويستنكر البعض الآخر. وبعد السخونة يبرز بعدها "انتصار الذات" وتضخيمها، وتنطلق رسائل الإسقاط، ويتم التراشق اللفظي لتعزيز القناعات، وتثبيت الآراء، ودعم الأطروحات. هنا يدب العبث بالمقدس عند البعض إن تعلق الأمر بالدين، ويلبس عباءة الجدل في السياسة حين يطرح موضوعاً سياسياً فيتضخم التصنيف، ويكثر التوصيف، ويكرر التنصيف، ويعود الأمر إلى حالة السخونة، فيصبح كل مجادل محللاً سياسياً، وفقيهاً استراتيجياً، ومفكراً ضوئياً. وتستمر قصة الانتصار "للأنا" فمشكلتنا نعتقد أننا مطالبون بأن نتداخل في كل موضوع، ونظن أن السكوت لا يليق بنا، ونزعم أنه لا بد أن يكون لنا رأي في كل شيء، ونتوقع من مبدأ حرية الرأي أننا نستطيع الخوض في المسموح والممنوع دون مسؤولية، وأن نتجادل بلا حجج ولا مرجعية ولا مشتركات ثابتة، من ذلك سقطت عقول البعض ليس سهواً بل قصداً في متاهات الجدل.