هناك العديد من الأمور التي يتسبّب عنها ترك الإنصاف و غمط الصواب من أبرزها وأشدّها ضررا ما يقع فيه الكثيرون من الجدال و المراء!! فممّا يُذمّ من الألفاظ : المراء والجدال والخصومة. وقد كثرت بين الناس واتسعت مساحاتها حتى أصبح أبسط نقاش يدور أو يُطرح لا بد أن ينزلق في مزالق من التعسّف والتعصّب عظيمة الخطر مخوفة العاقبة !! وقال النووي رحمه الله: اعلم أن الجدال قد يكون بحقّ وقد يكون بباطل. والجدال منه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود. أما المحمود فهو ما تعلّق بإظهار الحقّ والدعوة إليه والدلالة عليه ، وهذا الذي أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]. وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم}. وقد جادل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الخوارج زمن عليّ بن أبي طالب بأمر علي، فأقام عليهم الحجة وأفحمهم، فعاد عن هذه البدعة خلق كثير. فهذا هو الجدال المحمود: ما كان لإظهار الحق وللوقوف عليه وتقريره بإقامة الأدلة على صدقه. أما النوع الآخر من الجدال - وهو موضوع حديثي ومقالي - فهو الجدال بالباطل وهو ما كان بغير علم. أو ما كان محبة للغلب ،أو طلبا للظهور !! وهذا غالبا ما يأخذ المرء إلى مهالك كثيرة فيقع في مهلكة طمس الحق و التشغيب عليه وشغل أهل الحق عنه:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121]. وأخبر الله عن هذا الصنف من الناس بقوله: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5]. والدافع الذي يحرّك من يقع في ذلك ويصرّ على الجدال والمراء هو الكبر في نفسه ، كبرٌ يمنعه من قبول الحق والعمل به: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56] ويصرّ المرء ويتشعّب في جداله يدفعه شعوره بتميزه وميله إلى تسفيه آراء الآخرين ، وهو من علامات الضلال ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: {ما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل}.ثم تلا قوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] وقد وقفت أثناء تأمّلي في حال الكثير من المجادلين على النصوص القرآنية والنبوية التي تناولت الجدال ولفت نظري أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن ترك هذا النوع من الجدال أمر شاق على النفوس التي اعتادته لذا بشّر من تركه ببشارة عظيمة قائلا : { أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا} وقد صدق من قال : ما رأيت شيئا أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أشغل للقلب من الخصومة وأبشع أنواع الخصومة ما جاء من وراء الجدال !! وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( كفى بك ظلماً ألا تزال مخاصماً, وكفى بك إثما ألا تزال ممارياً ) وأعترف أنني في رحلة إبحاري بين النصوص التي تناولت الجدال مدحا أو ذمّا وفي تأمّلي لآيات كتاب الله تعالى خلال هذا الشهر العظيم شعرت أننا بحاجة إلى فهم أعمق لكثير من أمور حياتنا وإلى تهذيب الكثير من سلوكياتنا