قبل ثلاثة عقود من الزمن كنت أتجول في إحدى المكتبات التجارية القريبة من المنزل، فلفت نظري كتاب بعنوان (ألف كلمة وكلمة)، فاشتريته واستمتعت بقراءته، والكتاب كلمات موجزة من إنشاء المؤلف، وهي خواطر اجتماعية ودينية وتربوية وبعض من مأثور السلف والحكماء، فكان هذا الكتاب هو للتربوي والداعية الشيخ سعيد بن عبدالعزيز الجندول - رحمه الله -. والشيخ سعيد كان له حضور دعوي وإعلامي وثقافي قبل عقود من الزمن، كما أنه من أصحاب القلم والكتابة والتأليف، وبذل علمه وثقافته في مؤلفاته التي نشرها في حياته طيلة مشواره الطويل، وكتب في الصحافة وأشرف على مجلة التضامن الإسلامي، وهنا نكتب شيئاً من سيرته ومحطات حياته لمن لا يعرف من القراء عن هذه الشخصية التي امتد عمرها قرابة التسعين عاماً، قضاها بين دراسة وطلب علم، وما بين وظائف قيادية ونشاطات دعوية ثقافية ورحلات خارجية. كان الشيخ سعيد بن عبدالعزيز الجندول يعمل بصمت، فكان شغله الشاغل هو العمل الوظيفي الحكومي الصباحي، وفي كثير من الأحيان يرتبط بالعمل المسائي في رئاسة لجان أو حضور عضوية لجان أو مؤتمرات، أو إجابة لدعوات رسمية واجتماعية، هذا فضلًا عن كتابة بعض المقالات وإعداد المؤلفات والقراءة والاطلاع في مكتبته الخاصة، التي كانت سلوته وخلوته ومعتكفه إبان حياته وبعد تقاعده - رحمه الله -. ولد الشيخ سعيد الجندول العام 1341ه بمدينة ليلى بالأفلاج، ونشأ في بيت كريم، فوالده الشيخ عبدالعزيز كان معروفاً بين أهالي المنطقة وليس من المغمورين، بل له ذكر وسمعة طيبة بين الناس، وله علاقات جيدة مع أمراء المنطقة وقضاتها، ومنزله كان مرتادًا للناس وللضيوف، وكان محباً للعلم وطلبة العلم، وأحب أن يكون ابنه سعيد من طلبة العلم فأدخله كُتاب تحفيظ القرآن الكريم، فسعد الوالد عبدالعزيز بابنه سعيد حينما حفظ القرآن الكريم، حيث كان عمره 13 عاماً، وعندما أتى العام 1358ه طلب سعيد من والده أن يأذن له في الرحلة في طلب العلم فأذن له بذلك. طلب العلم ولأول مرة في حياة الشيخ سعيد الجندول يخرج من مسقط رأسه ليلى، ليذهب في رحلة لطلب العلم الشرعي إلى الرياض، وكانت حلقة الشيخ محمد بن إبراهيم هي الحلقة الأشهر والأكثر تلاميذ، وانضم الشيخ سعيد مع التلاميذ قارئاً ودارساً ومتعلماً ومستفيداً من الشيخ محمد، وبعدها ارتحل إلى مكة لمواصلة طلب العلم وقصد المسجد الحرام فدرس على رئيس القضاة الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ، ومن هنا بدأت معرفته بأبناء الشيخ عبدالله، وقرأ على الشيخ الحافظ الموسوعي الشيخ محمد بن مانع، بعدها انضم إلى دار التوحيد وذلك بتاريخ 8 /2 / 1363ه، واجتاز المرحلتين بدار التوحيد الابتدائية والثانوية، وكان دخوله لدار التوحيد بمشورة شيخه وأستاذه محمد بن مانع، وبعد إنهائه الدراسة بدار التوحيد قدم على كلية الشريعة بمكة وانتظم في الدراسة بها، واستفاد - رحمه الله - من دراسته هذه، سواء بدار التوحيد أو كلية الشريعة من حيث العلوم الشرعية واللغة العربية، حيث تخرج في كلية الشريعة سنة 1375ه. عمل ووظيفة وعندما وصل الشيخ سعيد الجندول إلى مكة طالباً للعلم، عرض عليه أن يكون عضواً بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستشار شيخه محمد بن مانع فأشار عليه قبول الوظيفة، حيث تم تعيينه عضواً بالهيئة في الطائف، ثم بعد ذلك إماماً وخطيباً بمسجد الهادي بالطائف مع دراسته بدار التوحيد، وعندما تخرج من كلية الشريعة تعين إماماً وخطيباً بالمسجد الحرام بتاريخ 25 /2 / 1375ه، وكان قرار التعيين يشمل كذلك الشيخ الورع الزاهد والمقرئ الشهير عبدالله بن خياط - رحمه الله - فهما كانا في قرار واحد، وفي تاريخ 15 /1 / 1376ه عُيِّن الشيخ سعيد مديراً للمعهد العلمي السعودي بمكةالمكرمة، وبتاريخ 1381ه أصبح مساعداً لمدير عام التعليم بمكة، ثم عُيِّن مساعدًا لمدير التعليم بوزارة المعارف وذلك بتاريخ 1383ه، فمنذ العام 1375ه وحتى العام 1392ه والشيخ سعيد عطاؤه في العمل التعليمي والتربوي الإداري والتخطيط لهذه العملية الحساسة، وقائد بصرح من صروح العلم - وهو المعهد العلمي بمكة - مدة خمسة أعوام، ثم الانتقال إلى وزارة المعارف متنقلًا في قيادات إدارية وتربوية، وخلال هذه المرحلة كان قد اجتاز بعض الدورات التربوية قصداً في تطوير مهاراته الإدارية والقيادية والارتقاء بالعمل إلى أحسن مستوى، ومن هذه الدورات دورة المدارس الابتدائية من دار التربية بالجامعة الأميركية في بيروت، ودورة التدريب في التخطيط التربوي، وكانت لها إسهامات في تأليف المقررات المدرسية في العلوم الإسلامية، ولقد كان الشيخ سعيد طاقة من الطاقات الوطنية التي عملت بجد واجتهاد في الميدان التعليمي التربوي قبل خمسين عاماً تقريبًا، حيث إنه من أوائل العاملين بوزارة المعارف ومن قيادييها المعروفين بالعطاء المستمر، وهو رجل عملي دائم الحركة والنشاط والحيوية - كما سمعت من ابنه عبدالعزيز - وكذلك كثير الأسفار والتنقل لأجل العمل، وفي كتابه الممتع ستة وستون يوماً مع الدعاة زار 16 دولة خلال هذه المدة الزمنية. إخلاص وصدق وفي تاريخ 1392ه يمّم الشيخ سعيد الجندول إلى ميدان آخر في المجال الوظيفي يختلف كليًا عن العمل التعليمي ألا وهو العمل بهيئة التأديب، حيث عُيِّن نائباً للرئيس، واستمر عطاؤه في هذه المؤسسة، والذي يظهر من خلال سيرته أنه يحب عمله ويتفانى في الأداء والاتقان، حيث يراه من أساسيات النجاح، بل من الإبداع في العمل إذا صادف إخلاصاً ورغبة في التطوير، وقد اكتسب الشيخ سعيد خبرة إدارية جراء تنقله في أكثر من قيادة ووظيفة، وفي تاريخ 5 /8 / 1403ه تولى وكيل ديوان المظالم ثلاث سنوات، وأحيل على التقاعد العام 1406ه، هذه هي رحلة العمل والوظيفة لدى الشيخ سعيد - رحمه الله - منذ سنة 1375ه حتى 1406ه - 29 عاماً - قضاها في خدمة وطنه بكل إخلاص وصدق، مسخراً كل طاقاته التي منحها الله إياه في أداء العمل وما يوكل إليه من مهام رسمية، مؤمنًا بأن الوظيفة تكليف، لذلك كان سعيد مثالاً للموظف القدوة ومدرسة في الإدارة. ومع أن الشيخ سعيد قد تنقل في عدة قيادات إلاّ أنه كان عضواً في لجان وأعمال، منها: المشرف على إنتاج مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة لمدة عشرة أعوام، ومستشار شرعي بمكتب وزير الأوقاف، ومشرف على تحرير مجلة التضامن الإسلامي، وكذلك عضو اللجنة العليا لرسم السياسة الإعلامية، وعضو في اللجنة العليا للتوعية الإسلامية، وعضو في الندوة العالمية للشباب الإسلامي. دعوة إسلامية ويُعد الشيخ سعيد الجندول كثير التنقل والسفر، فلقد كلف في سفريات كثيرة بشأن الدعوة الإسلامية وكل ما يخص الدعوة والمسلمين وأمورهم بتكليف من الدولة، وكتابه (ستة وستون يوماً مع الدعاة) وضع فيه وكشف عن الدول الإسلامية وحال المسلمين فيها، وما يتعلق بالأقليات في الدول غير الإسلامية، حيث يعد من الدعاة الإسلاميين بل من شيوخ الدعوة في المملكة الذين لهم إضافات عملية وعلمية، وكانت الوسطية هي من أبجديات دعوته وكتاباته ومحاضراته، يقول - رحمه الله - في افتتاح كتابه (ستة وستون يوماً مع الدعاة): إن هذه الرحلة ليست سياسية ولا هي سياحية، وإنما ذات هدف نبيل غرضه التعرف على الباحثين عن سعادة الإنسان في كثير من بلدان العالم. - انتهى كلامه -، أجل إنها كلمات ذات طابع وسطي وراقٍ وذات مغزى صحيح وشريف، وهو البحث عن الذين يبحثون عن سعادة الإنسان، وهم الدعاة إلى الإسلام؛ لأن الإسلام هو الكفيل بسعادة البشر، كان داعية ومصلحاً، يُحب الرفق ويُحارب العنف والشدة، شخصيته تتسم بالهدوء والطمأنينة، وكان إذا تكلم أظهر كلمات مدروسة كأنه قد أعدها من قبل، وهذا حينما يرتجل الكلام في المجالس الخاصة وفي المنتديات أو المؤتمرات، فهو خطيب منبر، ولعل تجربته السابقة في الخطابة بالمساجد التي خطب فيها مكنته أن يكون خطيباً وبالأخص في أفضل بقعة على وجه الأرض المسجد الحرام، حيث خطب فيه مدة من الزمن. مؤلفات وكتب وألّف الشيخ سعيد الجندول - رحمه الله - عدة مؤلفات متنوعة في العقيدة والتربية والأخلاق والدعوة الإسلامية وهي: (الدر النضيد على كتاب التوحيد)، وهو شرح على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب، سلك فيه الاختصار والإيجاز وصاغه بأسلوب سلس وسهل يقرؤه ويفهمه كل قارئ، وقد طبع أوائل التسعينات الهجرية، وهو من أوائل الشروح على الطريقة المنهجية، يذكر الآيات والأحاديث ثم المسائل، بعدها يورد الهدف والشرح والخلاصة للموضوع، وقد ذكره الأديب على جواد الظاهر في كتابه (معجم المطبوعات) ضمن شروح التوحيد، وحدد تاريخ طباعته بالعام 1394ه مكتبة الرياض الحديثة، ومن مؤلفاته كتاب (الجنس الناعم في ظل الإسلام)، وهو كتيب لطيف كتب بأسلوب عصري وجذاب، وأيضاً (ألف كلمة وكلمة)، وهو كتاب متنوع نثر فيه الشيخ سعيد خواطره وانتقى شيئاً من اطلاعه في التراث، إضافةً إلى (الإسلام في معترك الفكر)، و(إليكم شباب الأمة)، و(التوحيد والتهذيب مقرر على الثانوية)، إلى جانب (رحلة 66 يوماً مع الدعاة)، وهو كتاب جميل جدًا طرح فيه أوضاع المسلمين في هذه الدول. سفرات وتنقلات وسافر الشيخ سعيد الجندول إلى إندونيسيا رحلة مستقلة لأجل الدورة السابعة للجنة التقويم الهجري الموحد بإندونيسيا، وكذلك سافر إلى جزر القمر الاتحادية ممثلًا للمملكة في الملتقى الدولي للثقافة الإسلامية، وشارك وفد المملكة لتقصي أحوال المسلمين داخل الاتحاد السوفيتي وحضور حفل يقام في طشقند عن حياة الإمام الترمذي - رحمه الله -، أيضاً سافر إلى المغرب ممثلًا للمملكة في الدروس الحسنية، وشارك مع أمانة المركز الإسلامي الإفريقي في دورتها الثالثة والثلاثين في الخرطوم، وأخيراً رحلته التي ألف فيها كتابه (رحلة 66 يوماً مع الدعاة). وكُلّف الشيخ سعيد ببعض المهام الرسمية، حيث كلف مع الشيخ محمد بن جبير للتفتيش على مدارس القرعاوي، وكان من أعضاء اللجنة التي وكل إليها إنشاء معاهد علمية باليمن، وكُلّف مع اللجنة لحصر أموال الملك سعود بن عبدالعزيز - رحمه الله - بعد وفاته بأمر من الملك فيصل - رحمه الله -. دماثة الأخلاق ومن خلال هذه المسيرة الطويلة في العمل الوظيفي يقول ابنه عبدالعزيز بن سعيد الجندول عن والده: إن الوالد - رحمه الله - يرى أن الوظيفة مهمة وطنية، وأنها تكليف لا تشريف، وينقل عن والده أنه قال: الشعور بالتكليف يرتبط بقلة الفساد، والشعور بالتشريف يرتبط بتفشي الفساد، وعن شخصية والده قال: شخصية قوية مع أنه يتصف بالحلم والعطف ويحب جميع الأقارب ويتواصل معهم بالزيارة، وكان يقدم لنا النصيحة بطريقة غير مباشرة في أغلب الأحيان، ويتعامل وفق أساليب التربية الحديثة، وكان يستمع إلى جميع الآراء ويناقشها. ومن جانب آخر يذكر ابنه عبدالعزيز أنه شديد في عدم ضياع الوقت إلاّ فيما يفيد، ويحرص على الإنتاج والتنفيذ في العمل، مضيفاً أنه يتعامل مع الصغير والكبير بأدب، وأنه معروف بالاستقامة ودماثة الأخلاق والتواضع، وكان يحرص على تنشئة ذريته على الصلاح والخير وفق تعاليم الإسلام، وكانت قاعدته في توجيه الأسرة هي قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، حيث يناقش داخل الأسرة حتى يصل المتلقي إلى قناعة، مع أنه والد ويستطيع أن يفرض رأيه، مبيناً أنه يتصف بالعطف على الفقراء ويحسن إليهم ويحب الصالحين والمصلحين، وعندما تقاعد أخلد إلى الراحة وأصبح لكتاب الله عز وجل، وكان دائم الجلوس في المسجد المجاور بالحي القريب من منزله بمدينة الرياض. وفي تاريخ 12 /3 / 1429ه توفي الشيخ سعيد الجندول رحمه الله وأسكنه الفرودس الأعلى، الشكر لعبدالعزيز بن سعيد الجندول على ما أمدنا به من معلومات عن حياة والده. الجندول في إندونيسيا ويظهر في اليسار عبدالعزيز آل الشيخ إمام المسجد الحرام سابقاً الشيخ الجندول في إحدى رحلاته الدعوية سعيد الجندول في اجتماع مجلس الأمة غرب جاوا في باندوق الداعية الجندول الثالث في الصف الأمامي في إحدى سفراته عبدالعزيز بن سعيد الجندول صلاح الزامل