حينما تتصفح تراجم رواة الأدب والشعر واللغة ورواة الأخبار والقصص، مثل معجم الأدباء للعلامة ياقوت، وكتاب طبقات الأدباء للأنباري، تنبهر حينما تقرأ تراجم هؤلاء من حيث ضخامة المحفوظ لديهم من الأدب، فهذا حماد الراوية لما سأله أحد الخلفاء: "كم تحفظ؟"، قال: "أحفظ من كل حرف من حروف الهجاء مائة قصيدة، هذا غير الأراجيز والمقاطع"، واختبره الخليفة، وأثبت هذه الرواية أمامه بمقدرته على الحفظ حتى مل الخليفة، وأمر بعض حاشيته بأن يسمع بقية القصائد التي يحفظها حماد. وفي القرن الرابع عشر الهجري، خرجت شخصية نجدية أمثال حماد الراوية وأبو عبيدة وهشام الكلبي وابن الأعرابي وأبو رياش اليمامي، ألا وهي شخصية الإمام في الحفظ والعلامة في الرواية والفنون الأدبية الشيخ الحافظ عبدالله بن أحمد العجيري -رحمه الله-. ولد عبدالله العجيري في حدود عام 1278ه في حوطة بني تميم، كما أخبرني حفيده سعد بن عبدالعزيز بن عبدالله العجيري، وقال لي: "إن تاريخ الميلاد هذا وجده والدي عبدالعزيز على أحد الكتب بخط جدي التي كان يملكها"، وقد حفظ القرآن الكريم على أبيه المقرئ الشيخ أحمد العجيري، ثم قرأ ودرس على طلبة العلم آنذاك في الحوطة، منهم الشيخ سعد بن باز، وغيره من طلبة العلم، ورحل إلى الرياض ودرس على علمائها الفقه والتوحيد، ورحل إلى عمان وحائل، وقابل علماء الساحل الخليجي ومنهم أحمد الرجباني -رحمه الله-.مرافقة الملك عبدالعزيز وتميز الشيخ عبدالله العجيري -رحمه الله- عن غيره من عصره من طلبة العلم والعلماء بالحفظ، بل إنه آية من آيات الحفظ، ومخزون هائل وضخم من المحفوظات في الشعر واللغة والقصص والحكايات والفنون الأدبية، ووهبه الله - عز وجل - ذاكرة حديدية بطيئة النسيان، وأعتقد أن حافظته استمرت معه ولم تتغير حتى وفاته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وأول من تكلم عن هذا الإمام في الحفظ، وشاهده وسمع منه - ولم ينقل عن أناس شاهدوه - هو يوسف ياسين في كتابه الرحلة الملكية، حينما صحب الشيخ عبدالله العجيري الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - في طريقه إلى مكة عام 1343ه، في ذاك الركب اكتشف يوسف ياسين ذاك العملاق في فن الرواية والسرد الأدبي والإخباري والقصصي، يقول يوسف ياسين: «حتى إذا ادلج الليل، وكل الحادي، وكاد الركبان يملون، نادى الملك عبدالعزيز بصوته قائلًا: العجيري، فينادي المنادي العجيري، وعندما يسمع العجيري النداء سرعان ما يلبيه، ويحث راحلته الذلول حتى يقرب من وسط الجمع الغفير إلى جانب الملك عبدالعزيز، فإذا توسط الشيخ العجيري جموع الركب، حمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه الكريم، ثم استهل موضوعاً شائقاً من فنون الأدب أو السيرة أو التاريخ، فيذهب بذكر جميع ما ورد في كتاب الله عن الموضوع، وما روى الرسول الكريم، وعن الصحابة والتابعين في ذلك المعنى، ثم ما روي عن العرب من جاهليين وإسلاميين ومولدين ومحدثين، وما قاله أئمة الهدى من العلماء الأعلام». سيل منحدر ويواصل يوسف ياسين مجسداً صورة الشيخ العجيري عملاق الحفظ وإحدى أساطير الرواية قائلاً: «فإذا بدأ روايته كان كالسيل المنحدر، يغترف من بحر لا يتلعثم ولا يتردد، يصل القول بالقول، ويغرب ويشرق، يجوب حدائق الأدب، فيقطف من كل غصن زهرة، وينثر على مستمعيه جني ما اجتناه وما استودعته ذاكرته التي لم تخنه في ليلة، ولم تعز عليه طول الأيام»، كان عمره إبان هذه الرحلة - أقصد العجيري - على تحديد ميلاده سنة 1378ه خمسة وستين عاماً، وكان كل ليلة يحاضر ويسامر الملك عبدالعزيز ساعة أو ساعتين من محفوظاته، لا يعيد ما رواه في ليالٍ سابقة، بل كل ليلة ينهل من معين تلك الحافظة الجبارة بشيء جديد وممتع وطريف ومفيد، وكانت مدة هذه الليالي 26 ليلة، كان أنيسها وجليسها ونديمها في هذا الركب الشيخ النجدي العجيري، الذي لم تنجب المنطقة مثله في الحفظ، بل إنه موسوعة في الرواية، ومكتبة أدبية وشعرية ودينية ولغوية متنقلة. ومن إعجاب الأستاذ يوسف ياسين بالشيخ عبدالله العجيري قوة حفظه، يقول: «لولا ظلمة الليل وقلق راكب الراحلة لاقتطفت مختارات مما يحفظ العجيري وأودعتها للأمة العربية كتاباً سائغاً في الأدب العربي»، وقد كتب فيما بعد ياسين مقالة في جريدة أم القرى عام 1344ه عن الشيخ العجيري ومختارات من محفوظاته، أمّا الكتابة الأولى التي كتبها يوسف ياسين، فهي كما قلت في الرحلة الملكية، ثم كتب رثاءً نثرياً عندما توفي العجيري بعنوان «مات أديب نجد». سرعة ذاكرة وشخص آخر شاهد هذا الحافظ النادر ذا المواهب المتعددة عبدالله العجيري، ألا وهو المؤرخ والأديب أمين الريحاني، حينما زار الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - وكتب تاريخ نجد، يقول الريحاني: «كان الملك عبدالعزيز يأنس بالعجيري ويقربه ويدني منزلته لديه، وكان يكبر فيه علمه وفضله وسعة اطلاعه، فإذا جلس الملك عبدالعزيز في مجالسة العامة التي تكون غالباً زاهرة بالوفود والمسلمين والمراجعين، التفت إلى الشيخ العجيري بعد أن يفرغ، فيسأله عن معنى من المعاني التي أجاد العرب في وصفها، وأحسنوا القول فيها من الفنون الأدبية، فلا تجد الشيخ العجيري إلاّ حاضر البديهة سريع الخاطر، يجيب كأنه على استعداد للجواب من قبل، وما الأمر إلاّ وهي خاطرة وسرعة ذاكرة»، ويتابع الفيلسوف الأديب الشهير الريحاني إعجابه وإطراءه بالعجيري، كاشفاً أنه ليس حافظاً فقط، بل إنه حافظ وواع لما يحفظ، فاهم لكل معنى دقيق وعميق، ويؤكد الريحاني هذا، وربما سأل العجيري عن معنى دقيق أو نكتة لغوية، فلا يظن بالجواب ولا يجهل ما يقال، وكان الملك عبدالعزيز يسأله وهو في السفر عن الأسماء الماثلة والدارسة للأرض التي تكون في طريقهم، فكان على الفور يذكر الأرض ومن سكنها من القبائل، وأشهر من عاش على ظهرها من الشعراء والأبطال، ويأتي بشيء من شعرهم، فإذا كانت تلك الأرض قد شهدت معركة إسلامية أو جاهلية، أفاض في وصف تلك المعركة، وتحدث عمّا قيل فيها من شعر ونثر، فيفيض من علم واسع وإيراد شواهد كثيرة دون تكليف أو إجهاد ذاكرة، يتبع طريقة الجاحظ والمبرد في سياق القول ثم شرحه، وتعمد إيراد الأشباه والنظائر، وتلبية ما قد تدعو الإشارة إليه من المعاني. -انتهى كلام الريحاني-. رواية الأدب وحقاً إنها شهادة كبيرة ورفيعة المقام من أشهر أدباء العرب أمين الريحاني للشيخ الحافظ النابغة عبدالله العجيري، فالريحاني ينقل ما شاهد وسمع رؤي العين وسماع الأذن، لم يجامل ولم يحابِ، بل نقل الصورة كما شاهدها عن الشيخ عبدالله العجيري، والريحاني أديب وناقد وبصير، قرأ الأدبين العربي والغربي، فلا يمكن أن يقول كلاماً جزافاً من دون تمحيص وتحقيق ويسجله في كتاب. نعم، لقد كانت شهادة الريحاني من أهم الشهادات الأدبية التي سجلها ووثقها وبقيت خالدة في كتابه، فهي إشادة إعلامية لهذا الرجل النابغة من صحافي ومؤرخ اسمه الريحاني سجلها في كتابه (تاريخ نجد). يُذكر أن الحافظ الشيخ العجيري كان من جملة محفوظاته، التي يحفظها عن ظهر قلب ويسردها كأنه يقرأها مباشرة من كتاب (البيان والتبيين)، وكتاب (أدب الكاتب) لابن قتيبة ومسند الإمام أحمد، ويروي ويحفظ كثيرا من كتاب الأغاني. وقد أطلق عليه المؤرخ مقبل الذكير، وهو من المعاصرين للعجيري، راوية الأدب في جزيرة العرب، فهؤلاء الثلاثة يوسف ياسين والريحاني والذكير كلهم عاصروا العجيري، فيوسف ياسين والريحاني شاهدا العجيري رؤي العين، أما الذكير فهو معاصر، ومن المحتمل أنه شاهده، لكن شهادة الذكير جيدة من مؤرخ كتب في التاريخ النجدي ومن الثقات الأمناء. إدخال السرور يقول عبدالرحمن الرويشد في كتابه عن عبدالله العجيري: «كان الشيخ العجيري - رحمه الله - على سعة علمه متواضعاً سمحاً خلوقاً طيب المعشر، وكان نقياً عزوفاً عن كل ما يشين»، ويقول لي سعد العجيري -حفيده-: «إن جده كان مضيافاً كريماً عطوفاً على الفقراء والمساكين، وكان لا يأكل زاده وحده»، ويقول: «إنه أصاب الناس جوع شديد فقام يوزع التمر على الفقراء والمساكين»، ويقول أيضاً: «إنه ما يأتيه مهموم ولا مغموم إلاّ أدخل السرور على المهموم وأزال عن المغموم ما غمه» -انتهى سعد العجيري-، وهذا دليل على حسن منطق العجيري وقوة تأثير كلامه في السامع وعذوبة أسلوبه حينما يتحدث مع أي أحد، فكانت العبارات والجمل والمفردات تتدفق من لسانه ولا عجب من هذا التأثير، فالشيخ العجيري واعظ من الطراز الأول، فكان يحفظ كتب الوعظ مثل (التبصرة) و(ذم الهوى) يسردها سرداً، وقد وهبه الله - عز وجل - حسن الصوت، فكان لحسن صوته حينما يعظ وينصح العامة تأثير مباشر في نفوسهم، فيجد بعضهم يبكي وتنهال دموعه كما يذكر الرويشد في كتابه عن العجيري، حيث ذكر أيضاً أن الشيخ العجيري يجلس في الحوطة في إحدى الساحات، فيجمع الناس لسماع مواعظه وتذكيره، فكأنه يذكرنا بالوعاظ القدامى أمثال الإمام ابن الجوزي والإمام عبدالقادر الجيلاني. قصيدة رثاء من جانب آخر، فإن الشاعر محمد بن عثيمين كان صديقاً حميماً للشيخ الحافظ عبدالله العجيري، حيث كانا في الحوطة يجتمعان كل ليلة ويتناشدان الأشعار والقصائد، وعندما توفي العجيري رثاه صديقه محمد عثيمين بقصيدة، وهي قصيدة جيِّدة مليئة بالحكمة والموعظة، ومنها: سَقَى جَدَثًا وَارَى ابْنَ أَحْمَدَ وَابِل مِنَ الْعَفْوِ رَجَّاسُ الْعَشِيَّاتِ صَيّبُ وَأَنْزَلَهُ الْغُفْرَانُ وَالفَوزُ وَالرِّضَى يُطَافُ عَلَيْهِ بِالرَّحِيقِ وَيَشْرَبُ فَقَدْ كَانَ فِي صَدْرِ المجَالِسِ بَهْجَةً بِهِ تُحدِقُ الأَبْصَارُ وَالقَلْبُ يَرْهَبُ فطوراً تراه منذراً ومحذراً عواقب ما تجني الذنوب وتجلبُ وطوراً بآلاء الإله مذكراً وطوراً إلى دار النعيم يرغّبُ ولم يشتغل عن ذا ببيع ولا شرا نعم في ابتناء المجد للبذل يطربُ فلو كان يفدى بالنفوس وما غلا لطبنا نفوساً بالذي كان يطلبُ إرساء أمل ونختم بكلام عبدالرحمن الرويشد عن الشيخ عبدالله العجيري في كتابه «العجيري سيرة ذاتية.. ملحمة شعرية»، قائلاً: «أليس محزناً ومبكياً ألا نجد أثراً من الذكرى لهذا العبقري سوى بضع كلمات متناثرة حملتها إلينا صحيفة أسبوعية منذ ستين عاماً هي أم القرى، التي كان يرأس تحريرها الشيخ يوسف ياسين، أو بضعة أسطر وردت في تاريخ الريحاني، لا يربطها رابط، ولا يجمع شملها جامع. إن ذلك لبرهان على مدى الإهدار وضياع التاريخ وضياع المواهب، فهل نجد مكاناً لإرساء أمل متطلع نحو جامعاتنا لتعرف لهذا العبقري قدره، فتعين على جمع أخباره وبلورة فنه المحبب الشغوف، فن المجالس الأدبية، وتطلق اسمه (العجيري) للذكرى على مكتبة، أو قاعة، أو مدرج، اعترافاً بفضله أو تخليداً لذكراه؟، إن لنا في هذا من الثقة ما يجعل الأمل شاباً متفائلاً، إن شاء الله». توفي عبدالله العجيري -رحمه الله- بتاريخ 12/04/1352ه يوم الجمعة، ودفن في مسقط رأسه حوطة بني تميم كما ذكر حفيده سعد العجيري، رحم الله الشيخ عبدالله العجيري وأسكنه الفردوس الأعلى. المؤرخ أمين الريحاني يوسف ياسين تحدث في كتابه الرحلة الملكية عن العجيري عبدالرحمن الرويشد ألّف كتاباً عن عبدالله العجيري كتاب العجيري تأليف عبدالرحمن الرويشد ولد عبدالله العجيري في حوطة بني تميم عام 1278ه