عزيزي زميلي الشاب: وصلتني رسالتك بينما كنت مسافرًا لمدينة ميدلين، ومن ثمّ، فإنني أتقدم لك باعتذاري عن تأخري بالرد على بريدك. لكنني، على أية حال، في غاية السعادة وفي منتهى البهجة لاستلامي رسالة من فيلسوف شابّ «والحال أن البعض يتحرّج من هذا اللقب لأنه بالنسبة إليهم لا يمكن أن تكون شابًا وفيلسوفًا في الوقت ذاته»، وأن أشاطركَ آراءك حول حبّ الحكمة والعالم المحيط بها. دعني، في البداية، أقول لك: إنني معتز بهذه الثقة التي تمنحها لما أكتب، وإنني ممتن للتعاطف والاهتمام اللذين تعبّر بهما عن أعمالي وحياتي. إنني لا أدّعي امتلاكي عقلاً خصباً لا يكلّ، لكن الواحد لا يعدم أن يجد في كتاباتي أحد عناصر البراعة، وذلك لانكبابي بشكل على الاهتمام بثقافات مختلفة وبتقاليد الأفكار بشكل كبير. ولكن على أية حال، فإنّ الحياة ليست طويلة بما يكفي لإنجاز كلّ مهام الأفكار والأعمال، ولا تكفي حتى لإنجاز ما تعلمناه منها هي، أي من الحياة نفسها. إنني على قناعة تامّة بأن الفلسفة هي النطاق الأسمى الذي يحوي بداخله مختلف حقول المعرفة جميعًا، بالإضافة إلى مختلَف أساليب النظر المتباعدة المعنيّة بالتبصّر في الواقع. إنّه ليس من الصعب معرفة أنّ اللحظة الفلسفيّة قد صاحبت الإنسانيّة منذ خطواتها الأولى في حدائق بابل المعلّقة وحول أعمدة متحف الأكروبولص اليونانيّ. إنّ أحدًا لا يعرف متى بالضبط وأين بدأ الإنسان يتفلسف لأول مرّة. ولكن، وأكثر من أي شيء آخر، الأسلوب الذي أُدرِكت به هذه اللحظات الفلسفيّة كان عبر ذهول وجوديّ عميق، قبل أن يذكرنا العالم بما سمّاه فلاسفة ما قبل سقراط ب»أبريون» أو «مبدأ العلل الأولى». يصفُ أناكسندر مبدأ العلل الأولى على أنّها المنبت الخام المولّد لكل الموجودات، ويعتبرهُ فيثاغورس أنه المطلق اللا محدود. هذا المبدأ المطلق اللا محدود كان موصوفاً من قِبل الإغريق بأنه لا بداية له، ولا نهاية، وأنه خالد لا يطرأ عليه الفساد. إذا كان مبدأ العلل الأولى يمثّل روح الغموض لفلاسفة ما قبل سقراط، وفوق كلّ هذا هو يمثّل لديهم «السرّ الأعظم»، ذلك لأنه ينبثق، لديهم، كشيء إلهيّ يحوي عنصراً من الإبهام، لذلك قال أرسطو: إنها لا يمكن أن توجد وجوداً حقيقياً ولكن توجد كاحتمال وإمكانيّة. بالنسبة إلى أرسطو، «فإنّ اللامتناهي هو الإمكانية المفتوحة لاكتساب المزيد، رغم الكثير الذي اكتسبته بالفعل، بمعنى أنّه لا يوجد شيء تكتسبه هو متناهٍ، وإنّما هو كُليّ أو متكامل». إنّ اللامتناهي، في نهاية المطاف، هو مبدأ مكوّن لمفهوم المرء عن اللانهاية. واللانهاية هي أصل لا نهاية له لكلّ ذلك. فكما يقول أتباع المذهب الأبانيشاديّ: فإنّنا إذا نزعنا اللانهائيّ عن اللانهاية، فإنّ اللانهاية لا يمكن محوها على أيّ نحو كان؛ لأنّه ليس بإمكان المرء أن ينزع أيّ شيء عن اللانهاية. وبالتالي، فإنّ ما يكمنُ في نهاية الطريق هو في حقيقة الأمر ما هو كائنٌ في بدايته. وكما يصوغ ذلك فتغنشتاين ببراعةٍ، فإنّ «ما هو نهائيّ في اللانهاية ليس سوى اللانهاية ذاتها». ما ليس بنهايةٍ هو المستمرّ. فنحن نقول عن شيءٍ ما إنّه مستمر عندما يكون هذا الشيء غير مفكّك أو متواصلاً.