تنتاب المرء مشاعر الدهشة والاحترام والاعجاب عندما يقترب من حياة أو فكر انسان ارتفع في سلم القيم حتى وصل الى أعلى مرتبة، ونبغ في ميادين المعرفة فصار قبلة العلماء والمثقفين، وعانى في حياته المترعة أقسى أنواع التجارب بمحض اختياره بعدما تنازل عن ثروته الضخمة احتقاراً منه لحياة الرفاهية والغنى الفاحش، فعمل مدرساً في القرى النائية وبواباً في أحد المستشفيات وبحاراً وطياراً شراعياً وأستاذاً جامعياً ونحاتاً وعالماً مخبرياً وجندياً. انه الفيلسوف النمسوي لودفيك فتغنشتاين 1889 - 1951 الذي حير النقاد نظراً الى ما جمع في شخصيته الاستثنائية من سمات أخلاقية كانت رمزاً عالياً، ومن مقدرات معرفية مذهلة كانت الأساس في تقويض الميتافيزيقيا الغربية وانبثاق تيارات الفلسفة العلاجية واللغة الجارية والوضعية المنطقية. وتبدو ترجمة كتاب"تحقيقات فلسفية"الصادر عن المنظمة العربية للترجمة بيروت بقلم عبدالرزاق بنّور حدثاً مهماً خصوصاً أنه أحد أهم المؤلفات الجوهرية لفتغنشتاين. هذا الفيلسوف الكبير الذي ولد سنة 1889 لأب عظيم الثراء كان صاحب أول شركة احتكارية لصناعة الحديد والصلب في النمسا ولأم تمتاز بميول فنية قوية. كان لودفيك الابن الثامن والأصغر في هذه الأسرة. ونشأ نشأة خاصة وتمتع بمواهب عدة، فيروى عنه أنه وهو في مرحلة الطفولة تمكن من تركيب آلة لحياكة الملابس نالت إعجاب الجميع، واتقن العزف على الكلارينت وامتدت معه هذه الموهبة طوال سنوات حياته الأخيرة. ويذكر كُتّاب سيرة حياته أنه كان يمتلك موهبة عجيبة في الصفير فقد كان قادراً على أن يصفر كونشرتو كاملاً بدقة مدهشة. تلقى لودفيك تعليمه الأول في مدرسة لينتز في شمال النمسا، ثم درس الهندسة في برلين، وفي 1908 ذهب الى مانشستر لدراسة الطيران. وأصبح شغوفاً بدراسة فلسفة الرياضيات. وفي العام 1911 التقى بالعالم الرياضي فريجه الذي نصحه بالدراسة على الفيلسوف والعالم الرياضي الشهير براتراند رسل. وقد قال رسل في ما بعد:"إن بداية معرفتي بفتغنشتاين كانت أكثر مغامراتي العقلية إثارة طوال حياتي". ولا بد من الإشارة في هذا المقام الى أن فتغنشتاين تتلمذ أيضاً على الفيلسوف الشهير جورج ادوارد مور إلا أن مور سرعان ما قال:"إن فتغنشتاين أعمق وأذكى مني بكثير"وقد صار مور في ما بعد يواظب على حضور محاضرات فتغنشتاين. المهم أن هذا الأخير احتقر الحياة الأكاديمية فسافر الى النروج وعاش في احدى مناطقها في عزلة مهيبة. وما أن نشبت الحرب العالمية الأولى حتى تطوّع فتغنشتاين لأداء الواجب على رغم أنه معفى من الخدمة العسكرية لأسباب صحية، الا أنه أصر على الانخراط في الحرب دفاعاً عن بلاده فكان ذلك. ثم أكمل مخطوطة كان عاكفاً على انجازها في ما مضى ونشرت عام 1921 تحت عنوان: رسالة منطقية فلسفية Tractatus Logico Philosophicus وقد ترجمت هذه الرسالة الى اللغة الانكليزية عام 1922 وأحدثت ضجة هائلة وتأثيراً دراماتيكياً في حينها. وقد ترجم رسالة فتغنشتاين نفسها الى اللغة العربية المفكر الراحل عزمي اسلام عام 1968 إلا أن القليل من المثقفين العرب انتبهوا لها. وما يجدر ذكره أن فتغنشتاين أثناء الحرب أوقعته القوات الإيطالية في الأسر وبعد خروجه من السجن عام 1919 آثر أن يعمل مدرساً في المدارس الأولية فدخل كلية المعلمين في فيينا لأجل هذه الغاية. وبالفعل صار أستاذاً يمارس مهنة التدريس سنوات في قرى نائية معزولة جنوبالنمسا إلا أنه في العام 1926 شعر باشمئزاز كبير من حياة التدريس فأقلع عنها نهائياً. وبعد ذلك التفت الى عمل آخر هو تصميم هياكل المنازل واشتغل أيضاً في نحت التماثيل. وفي العام 1929 نال درجة الدكتوراه عن مؤلفه الآنف الذكر"رسالة منطقية فلسفية"وفي 1936 سافر الى النروج وهناك عاد الى عزلته الهائلة المخيفة وبدأ بكتابة مؤلفه"تحقيقات فلسفية"الذي نشر بعد وفاته سنة 1953 مع ترجمة الى اللغة الانكليزية. والحقيقة أن المفكر المصري عزمي اسلام ترجم هذا الكتاب نفسه الى اللغة العربية ترجمة رائعة وصدر عن جامعة الكويت. عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية سارع فتغنشتاين الى التطوع الا ان طلبه رفض فذهب ليساعد في العمل في أحد المختبرات الطبية وتوصل الى كشوف طبية ذات قيمة، وعاد بعد الحرب الى العمل الأكاديمي، إلا أنه قدم استقالته عام 1947 ورجع الى عزلته الرهيبة، ولكن على أحد شواطئ ايرلندا وهناك عاش وحدة قاسية. ويروي مؤرخو حياته أنّ الصيادين في ذلك المكان كانوا ينظرون اليه كأسطورة لما شاهدوا من أفعاله الخارقة حيث استطاع أن يستأنس الحيوانات والطيور المحيطة بكوخه، فكانت تأتي اليه وكان يطعمها بيديه. إلا أن القدر المحتوم كان قد حل فبعدما عاد من زيارة الى أميركا عانى من مرض عضال وعرف أنه مصاب بالسرطان وتحمل الآلام بشجاعة الأبطال وقضى نحبه في غرفة بائسة في عيادة الطبيب الذي كان يعالجه في كمبردج عام 1951. وكانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب التي كات تعتني به بحنان بالغ:"قولي لهم إنني عشت حياة طيبة"ولهذه الأسباب مجتمعة يرى النقاد - من دون ريب - أن فتغنشتاين كان أعظم شخصية كاريزمية في فلسفة القرن العشرين. المنعطف الخطر أما موقف فتغنشتاين المعرفي في كتابه"تحقيقات فلسفية"، فهو مرتبط ارتباطاً صميمياً بآرائه المبثوثة في مؤلفه"رسالة منطقية فلسفية". وفي امكاننا أن نشير باختصار الى أن فتغنشتاين يتميز عن الكثير من الفلاسفة بصعوبة كتاباته، حتى أن بعض الباحثين أكد أن منطق هيغل على رغم صعوبته الشديدة يعد سهلاً أمام رسالة فتغنشتاين المنطقية التي كانت منعطفاً خطراً في تاريخ الفلسفة المعاصرة. وقد وضغ فتغنشتاين أفكاره في الرسالة المنطقية في سبع قضايا جوهرية تكملها قضايا أخرى رقمّها بطريقة عشرية تمييزاً لها. وأساس رؤية فتغنشتاين هو الانطلاق من المعطيات المباشرة أو وقائع الإحساس والنظر اليها بصفتها خارج نطاق الذاتية والموضوعية ومن ثم وضعها على أنها وقائع ذرية. وهذه الوقائع الذرية تناظرها قضايا أولية. وبالتالي كل قضية أولية تحدد معناها واقعة ذرية، واذا لم يكن ثمة واقعة ذرية فإن معنى القضية سيتوقف على قضية أخرى. صورة العالم وبما أن وجهة نظر فتغنشتاين هي أن معنى اللغة يتوقف على قدرة نقل صورة العالم، اذا، وفقط اذا كانت هذه الصورة نفسها ناجمة عن الوقائع الذرية، فإن القضايا الأولية إن لم يكن ميدانها الوقائع الذرية، فإنها لن تنقل صورة العالم. وهذا يدل على أن اللغة في ظل هذا الوضع لن تكون قادرة على التعبير عن التركيب المنطقي للحقيقة الواقعية. واذا توقف معنى القضية الأولية على قضية أخرى وليس على واقعة ذرية، فإن هذا يعني خلوها من المعنى أي أنها ليست صادقة ولا كاذبة. ولذلك رأى فتغنشتاين بعبقرية نادرة أن كل قضايا الميتافيزيقا، لأنها لا تستند على وقائع ذرية، ليست صادقة ولا كاذبة بل هي خالية من المعنى، وما هو حقيقي يكون في سياق القضايا الأولية وما يتركب منها، أما ما هو غير ذلك فلا معنى له. ولذلك رفض فتغنشتاين أن تكون الفلسفة مذهباً وإنما هي نشاط يقتصر على منحى تبيان العلاقة بين الوقائع الذرية والقضايا الأولية. وهذا التبيان لا يمكن التعبير عنه. ومن هنا ختم فتغنشتاين رسالته المنطقية الفلسفية بالقول الشهير:"إن ما لا يمكن الحديث عنه، يجب أن نصمت حياله". وبناءً على ذلك نظر فتغنشتاين الى العبارات الشعرية والروائية والميتافيزيقية والجمالية والأخلاقية على أنها خالية من المعنى وهي بمثابة السلم الذي يلقى جانباً بعد الصعود الى المكان المزمع الصعود اليه. ولم يعول هذا الفيلسوف إلا على قضايا العلوم الطبيعية. ولذلك فإن القضايا الميتافيزيقية لا معنى لها داخل حدود العالم الإنسان ولغته. وان كان ثمة معنى فإنه يظهر أو يتجلى بنفسه. وعلينا انتظاره. إن موقف فتغنشتاين في رسالته المنطقية هو الأساس الوحيد والمسوغ الجوهري في الانتقال الى كتابه"تحقيقات فلسفية"من أجل فهم مقاصده منه. ففي هذا الكتاب يحاول التأكيد على أن المشكلات الفلسفية ناجمة عن فساد في منطق اللغة. وبالتالي عدم استخدام اللغة في الشكل الصحيح هو العلة في نشوء المشكلات الميتافيزيقية المزعومة. ومهمة الفلسفة تقتصر على تحرير اللغة من سوء الاستخدام والعودة الى معيار دقيق صحيح هو الحياة اليومية. وهذا يدل على أن معنى أي لفظ تحدده طريقة استخدامه أي أنه لا يوجد لفظ بعينه مستقل لمعنى هو بدوره مستقل، بل إنّ المعنى نفسه هو اللفظ من حيث أنه مستخدم فعلياً في لعبة لغوية بعينها. ومن شأن هذا الفهم للأمور أن يقود الى أن اللغة هي في حد ذاتها الفكر بقدر ما ان الفكر هو عينه اللغة ولا شيء أبعد من ذلك. والحقيقة أن فتغنشتاين يصرّ على أن اللفظ في اللغة لا يقتضي أبداً وجود مقابل له في العالم وعلى هذا فإن علاقة الاسم في اللغة، هذا الاسم الذي ينظر اليه فتغنشتاين بصفته مكوناً أساسياً للقضية الأولية التي هي بدورها ترتبط بالواقعة الذرية التي تتألف بدورها من"وقائع - ذرات"، ان علاقة الاسم في اللغة مع دلالته تكون عبر المُسمى أي ما يسميه الاسم. وبما ان الاسم يسمى دائماً مسمى مختلفاً بحسب سياق توجه اللغة، فإن هذا يعني ان دلالات الاسم تختلف باختلاف السياقات التي تكتنف المسميات ويترتب على هذا الوضع أنه لا توجد دلالة واحدة وحيدة للاسم وانما دلالات الاسم تفرضها الاستخدامات. وينجم عن ذلك نتائج جد خطيرة ترتبط بطبيعة العقل الإنساني الذي يعاني مشكلة صميمية فيه تعود الى الفساد في استخدام منطق اللغة وهي اعتقاده بوجود عالمين: مادي وروحي أو محسوس ومعقول، مرئي ولا مرئي, بدني وشعوري ويؤكد فتغنشتاين وجود"الألعاب اللغوية"التي لها أنواع عدة الى أبعد حد، لكنها تتغاير من لغة الى أخرى من حيث معاييرها، بيد أنها تشترك في كونها أفراداً من أسرة لغوية واحدة تجمعها قرابة معينة. وهذا يفضي في النهاية الى أن اللغة لعبة، مجرد لعبة. ولذلك كل الأفكار الفلسفية والميتافيزيقية هي ألعاب لغوية تتم وفقاً لقواعد ترتبط بتنوع اللغات. وتأسيساً على هذا الوضع فإن المهمة الحقيقية للفلسفة هي تقويض سحر اللغة. ومن المهم جداً لفت النظر الى أن فتغنشتاين يشير بعبقرية عجيبة الى أن أي انسان عندما يعبر عن أعمق مشاعره الخاصة السرية فإنه في هذه الحالة يستخدم لغة أو مصطلحات لغوية متوافقاً عليها. وبالتالي فهذا يعني أن العمومية اللغوية محكومة بقوانين هي الأساس في صدقية تعبير أي انسان عن أعمق خبايا نفسه.