انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «الأونروا» : النهب يفاقم مأساة غزة مع اقتراب شبح المجاعة    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    م. الرميح رئيساً لبلدية الخرج    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    «الأنسنة» في تطوير الرياض رؤية حضارية    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    إطلالة على الزمن القديم    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    صرخة طفلة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ندوة تونس : عن "ابن رشد والحداثة" . أخطاء الترجمة وتأثيرها في نقل الفلسفة 2 من 2
نشر في الحياة يوم 15 - 03 - 1998

اتفق الباحثون في "ندوة تونس" على ان بداية التوتر الفكري في اوروبا تراوحت بين حدّين: الاول فترة البرت الكبير وتلميذه توما الاكويني وتصاعد القلق طرداً بين تحريم العقلانية ومحاربتها ثم التراجع عنه وقبول العقلانية وصولاً الى الحد الثاني وبداية عصر ديكارت الذي يمثل نهاية مرحلة تأثير الرشدية وبداية تأثير افكار الامام الغزالي في الفلسفة الاوروبية المعاصرة خصوصاً في مسألة الشك.
لا شك في ان النهاية لها علاقة بالبداية وهي فترة البرت الكبير وتلميذه توما الاكويني. وحاول استاذ الفلسفة ماجد فخري دراسة هذه المرحلة بتركيز بحثه على مسألة "قدم العالم" واختلاف الاكويني عن ابن رشد.
يذكر فخري ان الخلاف على المسألة بدأ اسلامياً منذ عهد الكندي حين انكر الفيلسوف العربي قدم العالم او ازليته و"التزم بالرؤيا القرآنية القائلة بحدوث العالم في زمان له بداية ونهاية". بعد الكندي جاء الفارابي وقال بقدم العالم ورفض مقولة "حدوث العالم في زمان متناه"، وتابعه ابن سينا في نظرية الفيض او "الصدور الازلي". ثم قام الامام الغزالي بنقض نظرية الفيض وابان تهافت دعوة "قدم العالم" واكد على حدوثه لانه اذا "كان العالم قد وجد منذ الازل، فليس لوجود الصانع ضرورة". فالعالم حادث او محدث وهو ليس قديماً ولا ازلياً. ورد ابن رشد على الغزالي فقال ان علم الله لا يشبه علم البشر. وخلط افكاره بافكار ارسطو ونسب اليه نظريات لم يقل ارسطو بها، فاضاف نظرية الخلق منذ الازل اي ان "العالم في حدوث دائم" بينما ارسطو لا يتطرق في فلسفته الى الخلق او الاحداث فهو يركز على مفهوم الحركة و"المحرك الذي لا يتحرك". واستغل توما الاكويني هذه الثغرة في فلسفة ابن رشد ورد عليه مؤكداً انه لم يفهم ارسطو او انه نسب اليه نظريات لم يقل بها.
وكرر التاريخ نفسه، فابن رشد اتهم الفارابي وابن سينا بعدم فهم ارسطو وخلطهما افكاره بافكار افلاطون والافلاطونية بافلوطين... وكذلك وجه توما الاكويني التهمة نفسها لابن رشد واتهمه بخلط افكاره الاسلامية بأفكار ارسطو.
يستشهد الاكويني بابن رشد وقوله ان العالم مركب من صورة ومادة وهو ازلي، وان الاجرام الفلكية غير كائنة فهي اذن ازلية لأنها غير فاسدة، وان العالم ازلي لانه لم يسبقه خلاء، وان الزمان قديم وليس حادثاً لأنه دائماً نهاية زمان وبداية حركة الزمن وسط بين الماضي والمستقبل ولا نهاية له.
ويرد الاكويني على مقولات ابن رشد التي نسبها إلى ارسطو مؤكداً على ان الفيلسوف اليوناني اراد من هذه المسائل عرض اراء من سبقه ولم يرد ابطال او اثبات ازلية العالم او حدوثه. وهكذا نفذ من هذه الثغرة ليفند آراء قاضي قرطبة حول "قدم العالم" اذ يستحيل البرهنة على حدوث العالم بالرجوع الى العلة الفاعلة. فالحدوث برأي الاكويني "لا يعرف الا من خلال الوحي الذي عليه يقوم الايمان". ويستنتج فخري ان موقف الاكويني من مسألتي القدم والحدوث ينقسم الى قسمين: الاول سلبي يحاول تبرئة ارسطو من تهمة القول بأزلية العالم، والثاني ايجابي يرد فيه القول بالأزلية الى الوحي او الايمان.
ويقترب الاكويني في نقده لابن رشد من رأي الفارابي كذلك من ابن ميمون الذي عاصر فيلسوف الاندلس وتابع نتاجه الفكري من القاهرة. فالفارابي اكد على ان ارسطو لم يرد في فلسفته التدليل على احد طرفي المسألة القدم او الحدوث وانما كان غرضه التمثيل على قضايا جدلية يصعب البت فيها بالبرهان. فارسطو برأي الفارابي لم يقل بقدم العالم بل عنى ان الزمان هو عدد الحركة وهو لم يتكون اولاً فأولاً بل دفعة واحدة بلا زمان وعن حركته حدث الزمان. فهو اراد اثبات الصانع لا نفيه. ويستنتج فخري ان ابن ميمون وتوما الاكويني اقرب الى رأي الفارابي في موضوع قدم العالم وحدوثه منهما إلى رأي ابن رشد. فعند ارسطو ازلية العالم وابديته من المسلمات. بينما ابن رشد قال بالجواهر الموجودات المفردة وهي اول الاشياء وليست فاسدة فهي موجودة دائماً العلة الدائمة ثم قسم الإحداث الى نوعين: الاحداث الدائم او الازلي، والاحداث المنقطع. وحتى لا يقع في الالحاد ادخل ابن رشد تعديلاً على موقف ارسطو انطلاقاً من نظرته القرآنية فقرر ان العالم مخلوق من لا شيء وان للزمان بداية ونهاية. وهو موقف فلسفي يشابه فلسفة الكندي.
بعد ان انتقد الاكويني ابن رشد واتهمه بتشويه افكار ارسطو، قام بتسجيل اختلافه عن ارسطو مؤكداً على مسألتي الخلق من لا شيء والزمان له بداية ونهاية، منتهياً الى اثبات وجود الصانع واسبقيته وبالتالي فإن المادة مخلوقة، لأن المادة الاولى من صنع السبب الاول والحدوث يحصل للاعراض لا للجواهر. فعند الاكويني الدليل العقلي يعجز عن اثبات الاشياء كلها وان الوحي هو دليل على حدوث العالم.
ومع ان ابن رشد رد على الغزالي والاشاعرة انطلاقاً من ادلة ظنية نسبها الى ارسطو الذي "لم يورد حججاً عقلية قاطعة على ازلية العالم" فإنه استمر يلتقي مع الاكويني، والى حد ما مع الغزالي، في مسألة الاحداث او الايجاد وهي لم يتطرق اليها ارسطو "في مؤلفاته المعروفة". فالحدوث عند ابن رشد او "الايجاد الازلي" يعني ان العالم مخلوق وهو يتركب من مادة وصورة ازليتين وينبغي اسناد هذا الرباط الى الفاعل الاول الصانع.
المنهج الخاص
إذا كان ابن رشد لا يقرأ اللغة اليونانية، فكيف تسنى له ان يفهم أرسطو ويشرحه خصوصاً في المسائل العويصة كالعلم الطبيعي مثلاً؟
لم يتطرق المشاركون في "ندوة تونس" الى هذه المسألة المهمة واكتفى معظمهم بشرح وجهة نظر ابن رشد وتعليقاته وتوضيحاته لفلسفة أرسطو والدفاع عنها ضد الإمام الغزالي، أو عرض انتقاداته لافكار الفارابي وابن سينا حين اتهمهما بخلط الافلاطونية بالارسطوية.
حاول رئيس قسم الفلسفة في جامعة بغداد حسام محيي الدين الالوسي استخلاص مذهب ابن رشد الخاص انطلاقاً من نقده لفلسفات الوجود، وهو الأمر الذي يميزه منهجياً عن أرسطو.
يرفض الالوسي مجاراة من يقول ان مذهب ابن رشد الخاص هو مذهب أرسطو. صحيح ان ابن رشد يرفض اجتهادات المتكلمين وفلسفة الفارابي - ابن سينا الفيضية، ويؤكد على العودة الى القرآن وآياته بعيداً عن اجتهادات المتكلمة، الا انه، وفي هذا المعنى، يشكل، برأي الالوسي، نكسة في حقل الاجتهاد الاسلامي حين يرى ان الحقيقة قيلت مرة واحدة وإلى الأبد. فابن رشد يخالف في الحقل المذكور أرسطو على رغم ان عودته اليه كانت عودة "عقل واع". يقوم مذهب أرسطو في الوجود على فكرة المحرك الغائي الذي لا يتحرك. فالعالم برأي أرسطو ازلي ابدي وهو قديم على اساس قدم المادة والزمان والحركة أو قدم "العلة التامة".
ويخالف الالوسي في استنتاجه ما ذهب اليه ماجد فخري استناداً الى تحليلاته لمقولات توما الاكويني وابن ميمون والفارابي حول نظرية أرسطو عن "قدم العالم" حين ذكر ان أرسطو طرح اسئلة ولم يرد الاجابة عنها، واكتفى بعرض آراء من سبقه وهو موضوع لم يفهمه ابن رشد في سياق سجاله ضد المتكلمة والفلاسفة المسلمين.
ينطلق ابن رشد، حسب الالوسي، من فهمين للقرآن الكريم واحد للعامة الجمهور وآخر للخاصة العلماء ويرى ان الاشاعرة ينكرون الاسباب الطبيعية والقوى وكل الفعل وينسبونه الى فاعل واحد يخلق من عدم. وبرأي ابن رشد ان الكليات لا غنى لها عن الجزئيات التي هي تجريد لها، ويرفض وجود الكون من عدم محض ويؤكد على ان دور الفاعل لا يتجاوز تركيب المادة والصورة باخراج ما هو بالقوة الى الفعل. ويرى ابن رشد، استناداً الى آيات القرآن، ان الصنع جاء من مادة أولى وليس من عدم محض. كذلك يرفض "دليل الجواز" عند المتكلمة ويؤكد على فعل العقول المفارقة بينما المحرك الذي لا يتحرك لا يتعدى دوره تنظيم ما هو موجود. ويأتي ابن رشد، حسب الالوسي، الى مسألة الحركة، هل هي حادثة لم تتقدمها حركة ام هي حركة اولى لم تزل ولا تزال؟ ويميل الى "قدم الحركة" اذ لو كانت للحركة حركة لما وجدت الحركة. فالحركة عند ابن رشد واحدة متصلة لا مبدأ لها لأن ما له مبدأ فله نهاية. فالحركة عنده ليست فاسدة ولا كائنة كذلك الزمان، وبالتالي فهي ازلية مطلقة كلية. وعلى هذا يرفض ابن رشد قول المتكلمين ان للحركة بداية أو هي مجموعة دورات أو حركات جزئية متلاحقة. فهي برأيه تمت بدفعة كلية واحدة وتستمر تلقائياً ذاتياً أو جزئياً الى ما لا نهاية، فهي كمال المتحرك وهي في متحرك ازلي، وحركته الاولى لم تزل ولا تزال. ولان كل حادث اما ان يكون حركة أو تابعاً لحركة، فانه بالتالي لا يمكن ان يكون قبل الحركة الحادثة حركة حادثة، فالحركة اذن قديمة كذلك العالم.
ويتهم ابن رشد الفارابي وابن سينا وابن الصائغ بقلة فهمهم لمذهب أرسطو، ويرى انه لم يقل بالفيض وأيد موقف المتكلمة المسلمين في نقدهم للفكرة لكنه يعود ويؤكد على قدم الزمان لا حدوثه. فالزمان برأيه متصل لأن ما ليس له أول فلا آخر له ولا ينتهي. فالحدوث عند ابن رشد لا يتجاوز التحريك، وبرأيه ان كل متكون يتكون من شيء ما وليس من عدم. فالعدم لا يتحول الى وجود، وبالتالي العالم قديم وليس حادثاً.
ويعود الالوسي للاتفاق مع استنتاجات فخري حين يعتبر ان ابن رشد لم يتابع مذهب أرسطو بل حاول الاجتهاد فيه. فمذهب أرسطو في الوجود أميل الى الفهم المادي الطبيعي، لكنه، برأي الالوسي، فهم مثالي "لكن مثاليته اضعف مذهب مثالي عرفه التاريخ" وهو أمر ينطبق الى حد ما على ابن رشد.
توصل الالوسي الى استنتاج منهج ابن رشد "المادي" بقراءة طويلة لفلسفة الوجود عنده استناداً الى مقولاته في "العلم الطبيعي" وهو أمر جعله يحصر خلافات فيلسوف الاندلس مع المتكلمة المسلمين في مسائل ثلاث: قدم العالم، قدم الحركة، قدم الزمان. وبرأي الالوسي ان هناك تشابهاً في مختلف المسائل ويقتصر الاختلاف على "البداية الأولى". فالاختلاف على البداية العالم، الحركة، الزمان هو اصل الافتراق. ويحتل نقد ابن رشد للمتكلمين في مسألة اصل العالم نصف كتابه "تهافت التهافت" بينما يتفق مع المتكلمين على الامور الاخرى. ويوافق الغزالي على حدوث العالم ويعترض على حدوث الزمان. فالزمان، برأي ابن رشد، قديم لأن "المتقدم والمتأخر في الحركة لا يفهمان الا مع الزمان". ويرد على ثلاث مقدمات قال بها المتكلمة وهي ان الجواهر لا تنفك عن الاعراض، وان الاعراض حادثة، وان ما لا ينفك عن الحوادث حادث. ثم يعود ويتفق معهم على ان للعالم ككل فاعلاً وموجداً وحافظاً، ويتفق معهم على ان الاجسام الملموسة حادثة في شيء وعن شيء ويتقدمها زمان. ويبدأ الاختلاف على ان العالم ككل متى وجد هل مع الزمان أم بعده؟ فهو يقول بايجاد العالم وان صورته محدثة لكنه يضيف ان نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين من دون انقطاع. وبذلك اختلف عن المتكلمة وفي الآن عن الفلاسفة المسلمين الفارابي، ابن سينا خصوصاً التيار الذي قال بنظرية "الفيض" التي انتقدها الغزالي بشدة.
يقسم الفيضيون الموجودات الى ثلاثة اشياء ويقولون ان الواحد لا يصدر عنه الا الواحد، بينما يقسمها المتكلمون الى شيئين قديم وحادث، ويقولون ان الواحد تصدر عنه الكثرة والا من اين جاءت الموجودات كلها.
استفاد ابن رشد كثيراً من نقد الغزالي للفلاسفة واعتراضاته التي تجاوزت في رده على مختلف اتجاهات الحكماء 20 مسألة، بل ان نقد فيلسوف الاندلس للمدرسة الفيضية يقوم اساساً على نقد الغزالي لها ويوافقه على معظم انتقاداته، خصوصاً في رده على فكرة ان المعلول الاول مركب من صورتين، ويوافقه على نقده لفكرة صدور جسم عن مفارق. كذلك ينتقد فلاسفة المسلمين لانهم فسروا "العلم الطبيعي" بمبادئ "ما بعد الطبيعة" لأن الوجود برأيه هو الشيء وهو ماهيته. فاعتراض ابن رشد انصب على الزمان وليس على الحدوث وتركز على الحركة وليس على مسألة الارادة القديمة وتجددها. وهو أمر قام لاحقاً شيخ الاسلام ابن تيمية، وبعد اكثر من قرنين على رحيل ابن رشد، بتقديم حل جديد له يقوم على مبدأ تسلسل المحدثات أو العوالم.
لا شك في ان انتقادات الغزالي الصارمة لافكار الفلاسفة المسلمين اربكت ابن رشد واحدثت التشويش المطلوب في ذهنه وتسلسل منهجه، خصوصاً عند موافقته على الملاحظات التي رد فيها الغزالي على صدور الموجودات عن الواحد، ودليل العلة التامة، والترجيح، وان العالم حدث بارادة قديمة اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه. فالغزالي ابطل فكرة قدم العالم والحركة وقدم الزمان. فالزمان عنده حادث مخلوق مع العالم المخلوق وهو مقياس حركة العالم ولا زمان بين الفاعل الأول وبداية العالم. فالفاعل الأول متقدم على العالم والزمان والحركة. وبالتالي فالعالم والزمان والحركة حوادث ناتجة عن الجوهر الفرد، اي انه "كان لا عالم ولا زمان ثم كان ومعه عالم وزمان".
استدل الالوسي على منهج ابن رشد الخاص في فلسفة الوجود على مقولاته الواردة في شرح "العلم الطبيعي" لارسطو وهو علم تبين لاحقاً ان قاضي قرطبة افترضه من عنده ونسبه إلى غيره بسبب جهله لليونانية، فالشارح اعتمد على ترجمات عربية مختلفة وقام بترجيح مقولات على اخرى ظناً منه بأن هذه اقرب الى عقل أرسطو من تلك، واعاد تنسيقها في نظام معرفي يقوم على عرض الافكار ثم تلخيصها ثم شرحها ثم التعليق عليها مفترضاً انها لغيره وهي في النهاية له لما فيها من خلط بين افكاره وما ظنه انه افكار أرسطو. وفعل ابن رشد الشيء نفسه في نقده لافكار المعتزلة حين رد عليهم في موضوع حدوث العالم بالزمان ومن لا شيء، مستنداً في استنتاجاته على كتابات الاشاعرة والمتكلمة ولم يقرأ مصدراً اصلياً من مصادر المعتزلة وكتبهم. وبسبب عدم اطلاعه على افكار المعتزلة والباطنية تجنب الرد عليهم مباشرة وتركز معظم نقاشه ضد الاشعرية والمتكلمة والامام الغزالي خصوصاً في مسألة "اثبات ادلة حدوث العالم" وهي كانت نقطة خلاف اساسية بين المعتزلة والامام الاشعري الذي قال ان العالم حادث وجاء حدوثه بسبب تركيب الاجسام من اجزاء لا تتجزأ وان الجزء الذي لا يتجزأ محدث وليس قديماً.
وبسبب جهل ابن رشد لليونانية وعدم اطلاعه على المصادر الاصلية لفكر المعتزلة أوقع منهجه في ارباك وحصل عنده تشويش وعطَّل تماسك افكاره في منظومة موحدة. فهو وقع في التهمة التي وجهها لمن يسميهم ب "الحشوية" حين رأى ان تلك المدرسة تحصر المعرفة بالسمع لا العقل.
وخلاصة الامر ان تاريخ الفلسفة العالمية لا يخلو من طرفة عجيبة ابتداء من افلاطون في اثينا وصولاً الى توما الاكويني في باريس انطلقت من سوء فهم او تفاهم نتج عن اخطاء في الترجمة والنقل. فالكندي رد على قدم العالم بتأكيد حدوثه، ورد عليه الفارابي وايده ابن سينا بتأكيد قدم العالم، ورد عليهما الغزالي بتأكيد حدوث العالم، ورد عليه ابن رشد بازلية العالم وحدوثه من فاعل اول، وانتقد وهو لا يتكلم اللغة اليونانية الفارابي وابن سينا بعدم فهمهما ارسطو، ورد عليه توما الاكويني واتهمه بتشويه اراء ارسطو وادخال افكاره عليه.
وهكذا دارت اكبر دورة فلسفية في التاريخ على مرتكزات لا صلة لها بعالم الافكار الحقيقية بقدر صلتها بعالم الوقائع وظروف كل فيلسوف المكانية والزمانية واسقاط كل فيلسوف افكاره على غيره ونسبتها الى من سبقه من مفكرين. فكل مفكر فهم ما يريده واهمل ما لا يريده. وبالاسلوب نفسه دارت في اوروبا معركة فكرية انقسمت الى تيارين: الاول يدحض افكار ابن رشد بذريعة "الالحاد"، والثاني يدافع عن افكاره بذريعه تغليبه العقل والعقلانية. وتبيّن في نهاية المطاف ان التيارين على خطأ بسبب سوء الفهم واخطاء الترجمة والنقل من العربية الى العبرية واللاتينية. فالتيار المضاد لابن رشد على خطأ لأن فيلسوف الاندلس ليس ملحداً، والتيار المؤيد له على خطأ لأن قاضي قرطبة يؤمن بالله ويدعو الى التوفيق بين الشريعة والحكمة ويغلب الوحي على العقل في مسألة العلة الدائمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.