تفاصيل مكثفة تحاصرنا، تحتل كل مسامات الفضاء، القرية الكونية الصغيرة أصبحت لا تطاق، تخنقنا نوافذها، ولا باحات خلفية نهرب إليها، في كل متر مربع هناك ألف تفصيل وتفصيل.. تفاصيل تعتقد أنك لا تستطيع أن تفوتها.. تلاحقها حتى تجد نفسك مكبلاً بها تحدق كالمجنون بعقدها ومصدر صريرها؟ من كبلك؟ من وضع القيد بيدك؟ ليس إلا أنت! هوس التفاصيل يأخذك أحياناً لمناطق غريبة.. تتحول فيها إلى "تلسكوب" يبحث عما لا يرى بالعين المجردة، هوس تتحد فيه كل حواسك ضدك؛ لتبرر قلقك! هوس متواصل يعبئ وعيك بالقلق والحذر وكأن شيئاً يتربص بك، وكأن الأحداث في الدومنيكان ستأخذ من قميصك، أو لكأنك ستدخل معملاً يعج بالفيروسات لتحاربها. ماذا يعنيك وأنت الجالس في بيت صديقك لو كانت الديزنطاريا منتشرة في كوبا؟ لماذا تصدر هذا القلق إلى بلدك؟ وما ذنب صديقك؟ تأمل نفسك ممسكاً بالريموت كنترول تتنقل بين محطات عاجلة.. تأمل حجمك في عالم يسكنه ستة مليارات نسمة.. ثم فكر لماذا تنحاز للقلة القليلة القلقة؟ تأمل تنقلك بين برامج التواصل الاجتماعي.. تويتر، إنستغرام، فيسبوك ثم المصدر واتس آب وتحديثات الأخبار!! ألا تخشى أن تصل لمرحلة تعتقد فيها أن مهمة البقاء في هذا العالم باتت مستحيلة؟ وأنت تعرف أن الوصول إلى هذه النتيجة هي نهاية طبيعية لمعادلة تُبنى على تفاعلات سوسيولوجية لا إرادية يعاد إنتاج تفاعلاتها بتزايد عدد مرات التعرض وعدد أفراد الدائرة ذات الاهتمام الواحد، ونتاجها إعادة صياغة حياتك اليومية، والتي هي بلا شك أس بناء الذات نفسها، حتى تصل إلى مرحلة اليأس. هذا التعرض المكثف وغير المبرر؛ سيؤثر حتماً على سلامة الوعي، حيث تحد من قدرته على استشعار مستويات القلق الطبيعي نتيجة استحضاره الدائم لتفاصيل العوالم الأخرى وقلقها ورميها بداخله في دوامة قلق لا تنتهي، يسرق الفرد من واقعه ويصل به إلى مرحلة اليأس، وبالتالي يخلق مجتمعاً ينهشه الإحباط والتوجس والقلق. في استطلاع أجراه باحثون العام 2015 بمركز "بيو للدراسات" في واشنطن، شمل 1800 شخص، كانت النتيجة أن "تويتر" يعد مساهماً قوياً في الشعور بالتوتر؛ لأنه يزيد من وعي المستخدمين بالتوتر الذي يتعرض له أشخاص آخرون.. ووفقاً لباحثين آخرين من جامعة كاليفورنيا، قيموا المحتوى العاطفي لأكثر من مليار منشور كتبه أكثر من 100 مليون مستخدم على فيسبوك، بين العامين 2009 و2012 توصلوا إلى أن منشوراً واحداً سلبياً عن حالة الطقس السيئ، من شخص يعيش في مدينة ممطرة على سبيل المثال، أثر على منشورات أخرى لأصدقاء له يعيشون في مدن جافة. كما خلصت دراسة أخرى نشرت في دورية "الكمبيوتر والسلوك البشري" إلى أن الأشخاص الذين يقولون إنهم يستخدمون 7 أو أكثر من منصات التواصل الاجتماعي، هم أكثر عرضة لمستويات مرتفعة من القلق بنسبة تزيد على 3 أضعاف، مقارنة بالأشخاص الذين يستخدمون منصة أو اثنتين، أو الذين لا يستخدمونها مطلقاً. تصدير القلق سلاح فاعل حتى على مستوى الدول حيث سياسة بث القلق والإحباط بين الشعوب في الدول النامية عن طريق ضخ الأخبار السلبية بشكل مستمر ومكثف، بهدف جر تلك الشعوب لمنطقة القلق، وبالتالي احتلال مساحة أكبر من تفاصيل حياتهم اليومية البسيطة والتحكم في شعورهم العام، كما كانت مثلاً "إذاعة لندن". الوعي وملاحقة التطورات سلوك طبيعي ومتوقع لكنه ينقلب إلى مرض إذا تحول إلى هوس.. لذلك إما أن تقرر الاكتفاء بمتابعة ما يعنيك مباشرة أو على الأقل فضلاً واصل متابعة هوسك دون أن تنشر طاقتك السلبية بين المحيطين بك.