الدبلوماسية في عمقها تعتمد على الوصول إلى النتائج، وتحقيق الغايات، بأكثر الطرق مرونة، وأقلها عنفا، وبِكُلَف منخفضة، عبر وسائل تبتعد قدر الإمكان عن الإجراءات الأمنية أو العسكرية. في بعض الحالات، تستخدم "القوة الخشنة" دبلوماسيا، كوسيلة – وليس غاية – لأجل الوصول إلى أهداف لم يستطع السياسي أن ينالها بالوسائل التقليدية أو عبر الحوار. ولذا يلجأ إلى "القوة" كخيار مؤقت، سريع، محدد الأهداف. بهذا المعنى، فإن للدبلوماسية أبوابا عدة، أحدها "الدبلوماسية الثقافية"، التي كانت محور حلقة نقاشية في العاصمة البحرينيةالمنامة، أكتوبر المنصرم، شارك فيها وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد، ووزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد، بحضور مجموعة من الدبلوماسيين الشباب. عبدالله بن زايد تحدث عن "الدبلوماسية الثقافية" بوصفها "بوابة للتعاون الهادف إلى نشر رسالتنا الإنسانية السامية، وثقافتنا العربية المشتركة"، إضافة إلى "مشاركة الأفكار الابتكارية فيما يتعلق بتطوير العمل الدبلوماسي المستقبلي، واستشراف آفاق التعاون والتنسيق الدبلوماسي؛ لمواجهة المتغيرات المتسارعة على الساحتين الإقليمية والدولية"، الأمر الذي يسترعي مقاربة غير تقليدية للعمل السياسي، وتطوير الآليات القديمة، واستحداث مجالات جديدة للعمل في أقسام وزارات الخارجية في الخليج، تعنى بما يمكن تسميته "الدبلوماسية التكاملية"، التي تكون "الثقافة" أحد أعمدتها الرئيسة. يروي لي أحد الدبلوماسيين السابقين، أنه وفي إحدى الزيارات لعاصمة عالمية مؤثرة، وأثناء المحادثات الثنائية بين الطرفين، اضطر رئيس الوفد إلى المغادرة بضع دقائق. قائلا: وجدت نفسي وحيدا أمام رئيس تلك الدولة، ورحت أتساءل عما يمكنني الكلام معه حوله، عوضا عن الصمت المطبق. وخلال ثوانٍ معدودة، فتحت حديثا عن إحدى الشخصيات التاريخية المؤثرة في سياسة بلد الرئيس، لأجده مبتهجا، وليأخذ زمام الحديث، مبينا محبته لهذه الشخصية وتأثره بها وبأفكارها بشكل كبير، وليستمر الحديث حتى بعد عودة رئيس الوفد في الموضوع ذاته؛ لأن الضيف شعر بالفخر، كيف أن زائره لديه معرفة بتفاصيل ثقافة وتاريخ بلده. هذا مثال بسيط عن كيف أن الثقافة يمكنها أن تخلق جسرا بين المتحاورين، وتقرب بين العقول، وتساعد على حلحلة الملفات، وتخفيف حدة الأزمات. "الدبلوماسية الثقافية"، ليست بالممارسة الهينة، فهي تحتاج لأن يكون الفرد على قدر كبير من الثقافة والحكمة، وأن يقرأ تاريخ وحضارة البلد الذي يزوره، ويعرف عاداته، والخطوط العامة الرئيسة له كحد أدنى، فضلا عن أن يتحصل على ملف تفصيلي عن الأفراد الذين سيقابلهم، والموضوع محل النقاش، ليعرف كيف ينفُذ في حواره ومفاوضاته إلى عقل الطرف الآخر؛ وهو ما يعني مزيدا من التدريب، والتعلم، والصبر، وليس مجرد عمل ميكانيكي، بروتوكولي، لن يؤدي إلى أي محصلة على مستوى السياسة. بالطبع، إن "الدبلوماسية الثقافية" لا تعتمد فقط على ثقافة الفرد الذي ينهض بها – رغم أهمية ذلك- بل تحتاج إلى برنامج وخطة عمل متطورة، وجهد جماعي، وهو ما ستتم مناقشته في المقال اللاحق.