من أجل حوار الثقافات» هو العنوان الذي اختاره الدكتور حمد الكواري، وزير الثقافة القطري السابق، للطبعة الفرنسية من كتابه «على قدر أهل العزم» (دار بلومزبري- مؤسسة قطر للنشر2015)، وهو عنوان يعبّر عن روح الكتاب أولاً ثم عن المشروع الذي انطلق به الكواري في ترشحه لمنصب الأمين العام لمنظمة الأونيسكو والذي تمثل في البحث الذي قدمه أكاديمياً في الجامعة القطرية وضم رؤيته الى منظمة الأونيسكو والعمل الثقافي. فالمجلس العالمي المقصود هنا انما هو «المجلس» الثقافي المعروف في دول الخليج والذي سجل في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي للإنسانية لدى منظمة الأونسكو. والمجلس هذا فضاء مفتوح له وظائف عدة، اجتماعية وثقافية وسياسية، وفيه يتم تبادل الأفكار ومناقشة القضايا وعقد لقاءات أدبية وشعرية وفكرية. ويصفه الكواري ب «الأغورا» كما لدى الإغريق او «الفوروم» كما لدى الرومان. ولم ينطلق الكواري من هذا «المجلس» إلا ليسبغ عليه طابعاً عالمياً عبر انفتاحه على الحوار الحضاري والثقافي بين الشعوب، وهو الحوار الذي انخرط فيه الكواري منذ عمل في الديبلوماسية الدولية ثم في تبوؤه منصب وزير الثقافة في قطر. تبدو الطبعة الفرنسية للكتاب التي صدرت لدى دار اوديل جاكوب (باريس) وأشرف عليها عبدالودود العمراني مختلفة بعض الاختلاف عن النص الأصل، لا سيما في البنية، فتمّ تقديم فصول على أخرى وتشذيب بعض المقاطع التي لا تعني القارئ الفرنسي أو الفرنكوفوني. لكن الكتاب لا يزال هو نفسه ولكن في صيغة اشد كثافة تلائم ذهنية القارئ الفرنسي والعالمي. يضم كتاب الكواري من الأفكار والآراء السجالية والمقاربات، ما يجعله أشبه بمشروع ثقافي يتقاطع فيه الفكر والأدب وعلم السياسة والديبلوماسية الثقافية. ولئن شاء الكواري هذا الكتاب في الأصل «سيرة فكرية»، فهو تخطى فيه مفهوم السيرة التقليدية ليكتب من خلاله مساراً فكرياً وثقافياً يجتمع فيه الشخصي والعام، الذاتي والموضوعي. فمن خلال هذه السيرة الشخصية يتبدى مسار الثقافة العربية بشؤونها البارزة وأسئلتها المطروحة بإلحاح في العصر الراهن، عصر العولمة في أبعادها المتعددة. فالكتاب يتطرق الى قضايا الثقافة والديبلوماسية والتراث والفن والأدب، في ما يشبه جولة أفق ثقافية، شرقاً وغرباً. وما ساعد الكواري في ترسيخ مشروعه هو ثقافته الشاملة، الشخصية والأكاديمية، ثم انفتاحه على ثقافات العالم الحديث لا سيما من خلال عمله الديبلوماسي وأسفاره وإقامته في مدن عدة: القاهرة، بيروت، دمشق، باريس، واشنطن وعواصم عالمية أخرى. فهو كان سفيراً لبلاده ولكن سفيراً مثقفاً، على غرار السفراء الأدباء الذين أفادوا من هذه المهمة ليوسعوا آفاق معرفتهم وثقافتهم ويكتسبوا خبرات شتى. وما يتميز به الكتاب هو تبني صاحبه مقولة «الديبلوماسية الثقافية» وتطويره إياها بوصفها مقولة جديدة وفريدة، عرف كيف يختبرها ليفيد منها المثقفون العرب وكذلك أهل الديبلوماسية العربية. فهذه الديبلوماسية الثقافية هي الفضاء الممكن للتفاوض والحوار وتبادل الآراء والخبرات. وفي رأي الكواري إنّ النموذج الأساسي لهذه الديبلوماسية الثقافية يتألف من ثوابت عدة هي: مخاطبة الآخر في معنى السياسة الخارجية، والاعتماد على التأثير غير المباشر بأن يصبح الطرف المقابل مهتماً بالثقافة الصادرة، وألا يكون الآخر دولة أو مؤسسة رسمية بل أفراداً من المجتمع المدني في شتى مكوناته، وحصول النتائج على المدى الطويل نسبياً وليس المدى الآني القصير. ودعماً للمقولة هذه، يستشهد الكواري بمحاضرة المستشار الثقافي الفرنسي انطونان بودري الذي يرى فيها أن غايات الديبلوماسية الثقافية ليست ثقافية صرفة بل هي تنتمي الى السياسة الخارجية التي تعتمد التعليم والبحث والثقافة كوسائل لبلوغ غايتها. ثم يتوسع الكواري في رؤيته الى الديبلوماسية الثقافية فيعتبر أنها لا تخرج في أساسها عن كونها تأسيساً للعلاقات بين الدول ولكن من خلال الثقافة والفنون والعلوم والتربية. ويسأل الكواري: «ما المشترك الذي يمكن أن نبني عليه؟ كيف نقلص مسافة الاختلاف في الأهداف والمصالح السياسية ونوسع فضاء الاختلاف؟». ويجيب: «كان هذا رهاني بين المحلي والكوني، وبين المصلحي والإنساني: كيف نكون هنا وهناك في آن واحد؟». هذا السؤال الإشكالي العميق يعمد الكواري الى الرد عليه وإيجاد أجوبة تعني الفرد والجماعة. في المدخل، يتحدث الكواري عن التقارب بين البشر مختاراً الرمز الذي يمثله «المطار». فهذا المطار يسبغ الكاتب عليه صفة «الحيز» العام الذي يلتقي فيه البشر على رغم الاختلافات الثقافية في ما بينهم. ويرى أن المرء حين يدخل أي مطار في العالم قد لا ينتبه الى أن البشر هم أقرب بعضهم الى بعض مما نتصور. فالبشر هؤلاء يستقلون طائرة واحدة أو يركبون قطاراً واحداً ويكونون في تلك اللحظات مواطنين شاؤوا أم أبوا. وينسى هؤلاء البشر أنهم في الطائرة مثلاً يعيشون طقوساً مختلفة في عالم يكاد يكون مغلقاً بعاداته وطقوسه وقواعده وآدابه. هذا العالم يوحدهم طيلة الرحلة. ويقول الكواري في هذا الصدد: «كم هي بسيطة هذه الكلمة: رحلة». ثم يربطها بكلمة أخرى مهمة وهي «العبور»، العبور من مطار الى مطار آخر ليس مجرد عبور مكاني أو زمني فقط بل هو عبور وجودي. ويتطرق الكواري الى مسألة العلاقة بين الخصوصية الثقافية والنزعة الكونية، أو ما يسميه «التوتر» بين المحلي والكوني وهو «توتر لا يخلو من حدة أخرجت مخاوف عديدة من قمقمها». وكم يبدو الكواري مصيباً في ابتعاده عن مقولة «صدام الحضارات» التي أطلقها المفكر الأميركي صموئيل هنتنغتون قبل أعوام وأثارت سجالاً عميقاً، ويستبدلها بمقولة «التنوع الثقافي». ويرى أن ظاهرة «الأمركة» التي يستخدمها البعض دليلاً على العولمة في صيغتها الأميركية، باتت تخشاها أيضاً الدول المتقدمة وليس فقط الدول النامية. فهذه الأمركة تحمل من التنميط ما لا يمكن الرد عليه إلا ب «الاستثناء» الثقافي أو «التنوع الثقافي». واصل الخوف بحسب الكواري، يعود الى هيمنة منطق السوق في مجال الثقافة. ويضع الإصبع على الجرح عندما يتناول قضية الزحف العولمي على الثقافات المخصوصة وما رافقه أو واجهه من صعود قوي للمطالب المتصلة بالهويات الثقافية. ويلحظ ان البشر كلما تقاربوا واتجهوا نحو قيم وتصورات مشتركة، مالوا الى حال من الانكفاء على النفس والانطواء على التقاليد الخاصة. ويطرح سؤالاً خطراً حقاً وهو: «هل يمكن أن تزول الخصوصيات الثقافية؟». وجواباً على هذا السؤال الإشكالي، يرى أن نشر القيم الثقافية الغربية من خلال عمليات التحديث لم يتمكن من إلغاء الخصوصيات الثقافية التي تتمتع بها الشعوب. ويلحظ أن مكونات ثقافية صلبة تستند الى تقاليد عريقة استطاعت أن تصمد في وجه الزحف العولمي. فثمة مظاهر كثيرة تدل على أن الكثير من الثقافات الخاصة تمكنت من استيعاب المنتوج الثقافي الصناعي وأدرجته بعد أن هضمته، في سياق بيئتها ومعطياتها الراسخة. وهنا يفتح الكواري نافذة من الأمل تحتاجه البشرية جمعاء، نافذة تطل على مستقبل حافل بالحوار والاعترف بالآخر واحترام الحريات في أبعادها كافة. الحضارات يجب أن تتحاور عوض أن تتصادم، والثقافات ينبغي أن تتجاور وتتفاعل بدل أن تتواجه ويلغي بعضها بعضاً. ولعل هذا ما يحتاجه عالمنا المضطرب اليوم، كل الحاجة. يحلل الكواري مفهوم الحداثة والدور الذي أدته وتؤديه في سياق النقاش الكوني- الخصوصي وفي «ترسيخ الاختلاف المخصب». وفي رأيه إن الحداثة بأصولها الغربية، لم تسع «الى إدخال الجميع في جلباب واسع». وأكثر ما يميز الحداثة الحقيقية هو الانفتاح والابتعاد عن التنميط. الحداثة هي التي ساعدت الإنسان في الخروج من الحلقة المفرغة التي تجعله صورة مجسدة لما ارتضته المجموعة من منظومات للقيم والسلوك. بل إن الحداثة هي التي جعلت الفرد قادراً على بناء مسار حياتي يختاره عن وعي وفتحت ذهنه على ممكنات جديدة. وما اجمل النداء الذي يطلقه الكواري بجرأة ووعي: «لنفتح النوافذ جميعاً». إنها دعوة الى الحوار البشري في أفضل صيغه، دعوة الى التآخي والتشارك والمؤازرة، وجودياً وثقافياً. ثم يتوقف الكاتب بصفته وزيراً سابقاً للثقافة، عند تجربته الفريدة في إحياء مبادرة الدوحة عاصمة للثقافة العربية، ويخصها بصفحات عدة يروي فيها تفاصيل هذا الحدث الثقافي الكبير الذي تجلى فيه مفهوم «العاصمة» الثقافية وقد تفرد مشروع الدوحة بعنوان فريد هو «الثقافة العربية وطناً والدوحة عاصمة». يضم كتاب الكواري قضايا عدة مطروحة للنقاش بإلحاح. ومن هذه القضايا على سبيل المثل: مفهوم التنمية الثقافية، الاستكشاف الجمالي للعالم، منطق السوق، الرقابة وسؤالها الإشكالي: كم يمتلك الحقيقة؟ النخبة والجمهور، انتصار الميديا، المواطنة العابرة بين الثقافات وسواها. وكل عنوان من هذه عناوين هذه القضايا التي عالجها يستحق مقالاً بذاته. لا يبدو كتاب «مجلس عالمي» مختلفاً عن الأصل العربي وطبعته الفرنسية تضيف الى هذا الأصل وتمنحه بعداً آخر. والكواري ليس غريباً عن اللغة الفرنسية أصلاً ولا عن الإنكليزية فهو يجيد الفرنسية والإنكليزية ودرس في جامعات فرنسية واميركية، وهذا اللقاء بين هاتين الثقافتين في كاتب متجذر في التراث العربي والإسلامي، هو دليل غنى ومعرفة قائمة على الاختبار. ويكفي أن نقرأ في هذا الكتاب ما كتب الكواري عن أدباء نوبل المتعددي اللغات والهويات لندرك كم أن هاجس الأدب عطفاً على الهاجس الثقافي، يهيمن على اهتمام هذا الديبلوماسي والكاتب روحاً وخياراً.