لا يوجد على الساحة المحلية والعربية من هو كمحمد عبده.. تاريخاً، وفناً، واستمرارية في العطاء، رغم تقدم السن، والظروف الصحية، وتغير المراحل والتحديات. رافق العمالقة جميعاً من الأب الروحي للفن السعودي الموسيقار طارق عبدالحكيم الذي لحن له الأغنية الأشهر على الاطلاق لنا الله لإبراهيم خفاجي، والأعذب يا ناعس الجفن، وأغنية البدايات سكة التايهين لناصر بن جريد، وصولاً إلى المبدعين الشباب وعلى رأسهم الملحن ناصر الصالح الذي أعاد لنا ذكريات الماضي من خلال بنت النور والأماكن التي لم تحقق أي أغنية بعدها ذات الشهرة والتأثير. منذ رحيل صوت الأرض طلال مداح قبل ثمانية عشر عاماً أصبح أبا نورة القطب الأوحد في المملكة رغم نجومية عبدالمجيد عبدالله وراشد الماجد وغيرهم من الفنانين الشباب. وبعد نحو ستين عاماً من العطاء حان الآوان لوقفة حقيقية للحفاظ على هذا الكنز الوطني الذي لا يقل قيمة عن أي معلم سعودي بارز. لا يمكن أن يتحمل فنان العرب وحده مسؤولية الحفاظ على هذه التركة الفنية، لأن فناناً بهذا الحجم لا يمثل نفسه فقط بل مئات المبدعين الذين صنعوا معه هذا النجاح، وملايين الجماهير الذين تربوا على صوته ورافقت أغانيه نبضات قلوبهم وانكساراتهم مع الحب والشوق وألم الفراق. ماذا ننتظر لكي نقيم متحفاً يخلد لنا فن محمد عبده أو مدرسة لتعليم موسيقاه وألحانه؟ وعلى قدر ما تبدو الإجابة مؤلمة إلا أن التساهل في التعاطي مع هذا التساؤل قد يؤدي إلى ضياع الجانب الأهم من تاريخنا الموسيقي، كل آلة عود عزف عليها، كل ورقة تحمل مطلع قصيدة، أو كوبليهاً، وكل قصة صنعت أغنية هي بذات أهمية العمل، ورغم غزارة إنتاجه إلا أن إبداعه لا يتوقف عند ما يسمعه الجمهور أو يشاهده. من يتابع فنان العرب في السنوات الأخيرة لا بد أن يتعجب من كل هذا الحرص على الوفاء بتعهداته للكتاب والملحنين واستمراره في إقامة العديد من الحفلات الموسيقية في المملكة والخارج رغم ظروفه الاجتماعية القاهرة، إلا أن المقربين منه يدركون مدى التزام محمد عبده بفنه حتى لو على حساب راحته وصحته، وأن المسألة لا علاقة لها أبداً بالمال فسنوات العطاء والصبر في الفن قد أثمرت، ووفرت له وأسرته ما يغنيهم ويعوض عنهم سنوات الحرمان والفقر في البدايات. يبدو أن هناك أسباباً لا يعرفها إلا أبو نورة وحده؛ ولعل من أهمها حرصه على البقاء في القمة وعدم التنازل عنها لأحد وكأنه نسي أنه (فوق هام السحب) وأن ما وصل إليه من مكانة فنية عصية على من جاء بعده للأبد. لو كنت ذا سلطة أو «ميانة» على محمد عبده لخصصت له فريقاً استشارياً من الموسيقيين وخبراء العلاقات العامة والأطباء والقانونيين ليحافظوا على هذا الكيان ويحموه من ظلمه لنفسه وإرهاقه لها بهذا الكم من الحفلات والإنتاج الفني.. حان الأوان لتدخل من هذا النوع قبل أن نخسره كما خسرنا طلال.. لا قدر الله. كم حفلة أحياها أو سيحييها فنان العرب في الرياضوجدة والطائف وأبها والقاهرة والمنامة ودبي وأبو ظبي ولندن هذا العام؟ كم أغنية أصدرها خلال السنوات الثلاث الماضية، وكم ألبوماً في طريقه للأسواق الآن؟ كيف لنا أن نحتوي كل هذا الإبداع أو نمنحه الفرصة الكافية للتألق والانتشار في ظل «الرتم» السريع للحياة والساحة المليئة بكل ما هب ودب من الدخلاء وأنصاف المواهب؟ محمد عبده كوكب وحده، نسافر إليه لنستعيد ذكرياتنا ونلامس أرواحنا، لذا فإنّ أغنية منه في العام أو حفلة داخلية وأخرى خارجية ستجعلنا ننتظر جديده بذات اللهفة التي كنّا عليها مما «طال السفر». صحيح أننا نحبه ونعشق أغانيه.. لكن لا بد من التوقف عن استنزافه.. فهو ملك لنا جميعاً وليس له وحده. Your browser does not support the video tag.