توفي بعد ظهر أمس الثلاثاء في القاهرة الفنان السعودي الكبير عميد الأغنية السعودية وعميد المجمع الموسيقي العربي طارق عبدالحكيم عن عمر ناهز 94 عاما وبعد معاناة مع المرض في الآونة الأخيرة حيث كان يتلقى العلاج في القاهره التي (دفن بها أمس) حسب ما أشار ل(الجزيرة) ابنه الأكبر سلطان الذي أكد لنا في اتصال هاتفي ظهر أمس وفاة والده حيث نعاه لنا موضحا بأن وصية والده كانت دفنه في المكان الذي يتوفى فيه، وأكد ابنه سلطان أن التعازي ستتقبل في والده بدءاً من اليوم الأربعاء في جدة. ويعد طارق عبدالحكيم «عمق» الفن السعودي والذي كانت الطائف هي أول من سمع صوته حين ولد فيها سنة عام 1920 وحياته بائعاً للخضراوات في حلقة الطائف، ومنذ طفولته وشبابه كان مولعاً بالفن وحضوره حفلات المنشدين المكيين، وتأثره بكبيرهم حسن جاوة، وهو ما ساعد على تشكيل أذنه الموسيقية. وينسب إليه الفضل في الحفاظ على الفن الحجازي طيلة عقود طويلة وتخرج من الكلية الحربية برتبة ضابط مدفعية مضادة للدبابات، وبحكم عمله في الجيش والذي استمر حتى وصل إلى رتبة نقيب احتاجت وزارة الدفاع إلى ضابط موهوب وملم في الموسيقى وتم اختياره من قِبل الأمير منصور بن عبد العزيز، وزير الدفاع في عهد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، لتكوين أول فرقة موسيقى للجيش، وتم أول عرض عسكري ليعزف السلام الملكي السعودي أمام المؤسس، وسافر إلى القاهرة عام 1952 ودرس 4 سنوات في هذا المجال وهو برتبة نقيب، ويذكر بعض النكات حينها والتي كانت تردد عند وصوله وهي وصل (النيوزباجي) السعودي طارق عبدالحكيم لدراسة الموسيقى بالقاهرة من القوات المسلحة السعودية وهو لا يفقه الفرق بين نوتة الجيب والنوتة الموسيقية، وكانت مجرد نكتة عبر الصحافة لجذب القراء. في خبر نشرته صحيفة «الجزيرة» في السابع من شهر مايو عام 1973م أن الفنان طارق عبدالحكيم مدير معهد الموسيقات والتربية بالأمن العام قد عاد من القاهرة بعد أن تعاقد مع مدرسين جدد من أبناء جمهورية مصر العربية، من بينهم عازف الكمان الشهير أحمد الحفناوي وعازفين للكمان والناي والقانون وتسأل طارق ماذا تعمل الآن فيجيبك: أعمال مع العمال.! ويشير بهذا إلى الترميمات التي يجريها في دارته بالقرب من المستشفى العسكري بعد أن تعرضت لحادث سرقة - أثناء غيابه في القاهرة - وبعد ذلك لحريق لتمويه معالم الحادث الذي وقع لدارته فتسبب عنه خسائر مادية في أثاث المنزل وموجودات المكتبة . وأسس الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون عام 1968، ونال العضوية في جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى في باريس عام 1969، بعد ذلك عين نائبا لرئيس المجمع العربي للموسيقى بجامعة الدول العربية وحاز على جائزة اليونسكو الدولية للموسيقى من المنظمة العالمية للمجلس الدولي للموسيقى كسادس موسيقي عالمي يحصل على هذه الجائزة عام 1981 وغنى لهيئة الأممالمتحدة في قاعة همرشولد في عام 1986. أسس العميد طارق عبدالحكيم فرق الإذاعة والتلفزيون وله أكثر من 300 أغنية تغنى بها المطربين العرب وسعوديين وله أكثر من 10 سمفونيات، ولديه كما تعلمون متحف قائم في مدينة جدة باسم قلعة الفنون التراثية، يؤرخ للتراث والفن الحجازي بصفة خاصة، والفن السعودي بصفة عامة. وحتى عهد قريب كانت مدينة الطائف عاصمة الفن السعودي وفيها يتجمع نخبة الفنانين أمثال اللبني وحسن جاوة وعثمان خميس، والكردوس وسعيد أبوخشبة والزقزوق وحسين هاشم وعبد الرحمن مؤذن وغيرهم. كان طارق يشتري الإسطوانات لعدة فنانين مثل إبراهيم الماس وعمر غابة والجميعي ويحيى عمر وغيرهم ومن تلك الأغاني ( عظيم الشان يسّر لي مرادي وإن كان باب الرضى مقفل ) و ( يحيى عمر قال ما شأن المليح ) فهذه الأغاني وغيرها كان يحفظها ويغنيها في حفلات الزواج سواء في مكة أو جدة أو المدينةوالطائف وكان الجمهور يطلبونها منه ولأكثر من مرة لأن فيها «غزلا «، والأغاني القادمة من اليمن مثل ( صادني وسمسم فؤادي وأريد لثم الأيادي وغيرها ) ولم تقتصر اهتماماته بالأغنية واللحن اليمني بل اهتم بالفنون الأخرى مثل الموسيقى الغربية لبتهوفن وياخس ومانشو وغيرهم ) أما أغاني مكةوجدةوالمدينة كلها ابتهالات دينية عن الحج والحجيج ومكة وزيارات الرسول صلى الله عليه وسلم. تسلم طارق عبد الحكيم زمام الأغنية السعودية، ليحدث أكبر نقلة في تاريخها، حتى ليمكن القول إنه الأب الروحي للأغنية السعودية الحديثة، فهو الذي أخرجها من دوائرها التقليدية والمحلية إلى آفاق عربية قبل أن يتسلمها منه بعد ذلك طلال مداح، ومحمد عبده ويحققا بها أكبر مساحات الانتشار. وحينما يؤرخ للغناء السعودي، فإن طارق عبد الحكيم هو رئيس المجمع الموسيقي العربي، وصاحب الإسهامات الرائدة في تأسيس الفرق الموسيقية، وأول مبتعث سعودي إلى معهد الموسيقى العربية بمصر في وقت مبكر من عقد الخمسينات من القرن الماضي، وأول من أخرج الأغنية السعودية إلى النطاق العربي، فغنى من ألحانه كوكبة من المطربين والمطربات العرب أمثال: نجاح سلام وفائزة أحمد ومحمد قنديل وكارم محمود وسميرة توفيق ووديع الصافي وغيرهم. طارق عبدالحكيم هو أول ملحن تغني له فايزة أحمد عند قدومها لمصر وكان العميد حينها يدرس الموسيقى هناك سنة «1954» والتقت به ولحن لها أغنيتين شهيرتين كانت إحداهما «ربيع العمر» من أشعار الراحل محمد طلعت والثانية «أسمر عبر» كلمات محمد الفهد العيسى» وكانت فايزة مغمورة لا يعرفها كثيرون حيث كانت تقيم مع والدها السوري «أحمد بيكو» صاحب المطعم المتواضع والصغير في حارة «سائد خان الفوقاني» ببيروت ووالدتها اللبنانية من عائلة (ياسرجي) . وله أغانٍ أسميها عطورا ورياحين مثل « يا ناعس الجفن، روابي شهار، أهيم بروحي إلى المروتين، يا ريم وادي ثقيف، لك عرش وسط العين، أسمر عبر، تعداني وما سلم، أسمر سمير الروح، أشقر وشعره ذهب، أبكي على ما جرا لي يا هلي و « يا أهل الحرم بالله « و» عسى الحوية مقر السيل» و» قلت يكفي البعد « و» البارحة يا حبيبي « و» يحيى عمر قال « طلال مداح ذات يوم سمع الناس لأول مرة أغنية « وردك يا زارع الورد « لفنان فاجأ طارق عبدالحكيم وكان الفنان الراحل طلال مداح الذي قال عن تلك المرحلة : «لم يكن يشغلني في تلك البدايات سوى طارق عبد الحكيم، ففي كل مكان أذهب إليه أجد الناس يتحدثون عن عبد الحكيم، حتى في البيت الذي أسكنه كانت أغنيته «يا ريم وادي ثقيف»، تحمل صوته إلى غرفتي من مجلس الضيوف». و يعترف قائلاً: « لم يكن من السهل في زمن طارق عبد الحكيم أن تتسع ذائقة الناس لقادم جديد لا يرتدي عباءة طارق عبد الحكيم الفنية «. عن المنافسة يضيف الراحل طلال: كنت أرصد أماكن الأفراح التي يذهب طارق لإحيائها في مدينة الطائف، فأذهب إلى أقرب فرح منها لأغني مجاناً بغية الانتشار، واستقطاب بعض الجمهور، الذي سيطر عليه طارق عبد الحكيم بفنه لفترة طويلة من الزمن، ولم يطل بي الزمن حتى انتقلت بعدها إلى مدينة جدة، التي غدت البوابة الأكثر اتساعاً لتحقيق الشهرة لأي فنان». تواضع النجوم كانت تلك المرحلة تدين بالريادة لطارق عبدالحكيم وتضعه على منصة الريادة والنجومية المطلقة دون منافس، في مقابلها كان طارق عبدالحكيم يزداد تواضعا وقرباً من الناس رغم تشبعه بالشهرة التي انفرد بها على مدى عقود ومنذ انتقاله إلى مدينة جدة تجده يحمل كل ليلة سنوات عمره التي باتت مقتربة من التسعين ليتواصل مع الأصدقاء ويلبي دعواتهم، ويؤنس أفراحهم، ويطرز بالبهجة أسمارهم. يقول محمد صادق دياب : قبل نحو ثلاث سنوات تشرفت بصحبته أياماً في العاصمة اليمنية صنعاء، وبينما كنت أسير في سوق الملح بصنعاء القديمة، راح بائع اللوز اليمني العجوز يخفض من صوت مذياعه العتيق الذي كان يسكب أغنية يمنية قديمة يقول مطلعها: «بالله عليك يالموزع.. شيء معانا بريد يو بريد من عند خلي.. والعوازل شهود يو» ليسألني عن طارق عبد الحكيم بعد أن عرف أنه في اليمن، وحينما أخبرته باسم الفندق الذي ننزل به، قفز العجوز على الفور من مقعده، وأغلق باب رزقه، وراح يبحث عن طارق عبد الحكيم.. وحينما عدت من الفندق بعد ساعات كان العجوز اليمني إلى جوار طارق عبد الحكيم في بهو الفندق يبكيان ويضحكان معاً، وهما يتبادلان ذكريات عتيقة عن أيام خلت جمعتهما خلالها مدينة الطائف لسنوات.. وحينما انصرف اليمني العجوز سألت طارق عن الرجل، فقال: «إنه أحد عمال المقهى الذي كنا نقضي فيه أمسياتنا في الطائف». وظل ذلك العامل منذ ذلك اللقاء ضيفاً مرحباً به من قبل طارق في كل أمسياتنا الخاصة التي كنا نتحلق فيها حول طارق عبد الحكيم، وتلميذه الفنان حسن عبد الله في إحدى صالات «شيراتون» صنعاء، لنقضي الليل مع أغنيات طارق المعتقة وكانت سهراتنا الخاصة تلك تضم بعضاً من الأدباء والكتّاب والإعلاميين اليمنيين، الذين أعجبوا بثقافة طارق عبد الحكيم الموسوعية، خاصة ما يتصل منها بالغناء اليمني ورواده أمثال إبراهيم الماس، ويحيى عمر وجمعة خان، والجميعي والقعطبي وغيرهم، حتى إن مثقفاً يمنياً قال لي بعد نهاية إحدى السهرات: «هذا الرجل منجم الماس، فضعوه في مقدمة ثرواتكم». من وادي ثقيف إلى الحناجر « وادي ثقيف « التي أطلقت شهرة العميد في أنحاء الوطن العربي، كتبها شاعر الحرمان عبدالله الفيصل، عبر أغنية لتذاع من «صوت العرب» بالقاهرة بناءً على طلب من مديرها أحمد سعيد في ذلك الوقت، وبصوت اللبنانية نجاح سلام. ولتكون بطاقة العبور التي عبرت من خلالها ألحان الموسيقار حناجر فنانين من المحيط إلى الخليج، من أمثال كارم محمود ومحمد قنديل، وتغنت بها نجاة الصغيرة، وفايزة أحمد التي صدحت بأغنية «أسمر عبَر» لمحمد فهد العيسى. ولم يتوقف بحر عطاء العميد عند الحدود المصرية، بل تجاوزها ليصل لبنان عبر حنجرة هيام يونس في أغنية «تعلّق قلبي» حتى يصل إلى صوت الجبل الفنان الكبير وديع الصافي، وينتهي سجال الكبار بواحدة من أرقى الأغنيات العربية كلمات ولحنا معتقة بصوت الأصالة في كلمات عنترة بن شدّاد «لا وعينيك»، والتي قال عنها الصافي للموسيقار «اكتب للتاريخ أني أغني من ألحان غيري». وعبر طلال مدّاح، جاءت أغنية «لك عرش وسط العين» في بداية السبعينات، فيما تغنى محمد عبده ب «سكة التايهين» في بداياته وكتب كلماتها الشاعر المعروف ناصر بن جريد يقول طارق عبدالحكيم متحدثا عن هذه الأغنية : عندما جاءني محمد عبده وأطلعته على نص (سكة التايهين) قال لي كيف يلحن مثل هذا النص، وبدايته تقول : كنا سوى الاثنين في درب الهوى ما شين فقلت لمحمد سوف يتم تلحين هذا النص وستكون من انجح الأغنيات التي تغنيها في حياتك الفنية ولحنها طارق وكانت مفاجأة كبيرة لمحمد عبده عندما سمع اللحن بعد تركيب اللزمة الفنية في مقطع من هوّ، حين وضع اسم محمد عبده مع اللزمة وجعل الجمهور يردد وراء محمد عبده اسمه وكانت قنبلة فنية في تلك الفترة لمحمد عبده الذي كان في بداية خطواته الفنية والذي كان في أمس الحاجة لألحان مثل هذه ونجحت « سكة التايهين « وهو ما جعل منافسي محمد عبده يقدمون ألف حساب، سيما أن الأغنية كانت في أولى خطوات محمد عبده فنيا وكان في أمس الحاجة لألحان مثل هذه تجعله ينافس بكل قوة الآخرين وبالنسبة لأغنية « لنا الله « فلم يكن طارق عبدالحكيم مقتنعا بكلماتها في بداية الأمر وكانت كلمة( باتقلب على جمر الغضا ) صعبة في النطق والتلحين لكن إصرار الشاعر إبراهيم خفاجي على الأغنية أقنعه فيها وقدماها لطلال مداح الذي رفض أن يغنيها ثم وصلت لصوت الفنان محمد عبده وأبدع وتألق فيها ولم يتوقف حال عميدنا وأبو الفن السعودي عند هذين الصوتين فتعاون مع محمد عمر وعبد الله محمد وعبد المجيد عبد الله بدايات التسعينات في واحدة من أشهر أغانيه وهي : «أبكي على ما جرا لي يا هلي قلبي أنا من المحبّة مبتلي ولا حصل من يحل المشكلي مع ناعم العود أنا لي مسالة» والتي كتب كلماتها محمد العيسى متحف القلعة يضم متحف العميد تحفا ومقتنيات تعريفية وأغلبها أثرية ومنها أيضاً دورع وصور قديمة ونياشين وأوسمة وصحف قديمة وكذلك مجلات قديمة وأجهزة قديمة أغلبها لا يعمل وأشرطة كاسيت وريل وكاترج وأسطوانات وأقسام تعريفية بمقتنيات قديمة ونادرة لا يوجد مثيل لها في أي مكان كقسم العطارة والبئر وأدواته وصباغة الملابس والنجارة والسمكرة وأدوات القهوجي القديمة والنحاس والبناء وأدوات بائع اللبن في الماضي وأدوات الهاتف والراديو قديماً. خاتمة هذا ليس سوى عرض (متواضع) نقدمه لواحد أعتبره وهي الحقيقة مؤسس الأغنية السعودية الحديثة ورائدها ومحدثها وباني نهضة الموسيقى السعودية وعنوان بهي لمشوار كبير ونهر متدفق لم ينضب معينه ولم تكتشف « كنوزه « حتى اليوم، وأحب أن أوجه لوما وانتقاداً لكامل مؤسسات الدولة التي تجاهلت بقصد أو بدونه مشوار هذا الرجل وكعادتنا في أرشفة الإنسان وتركه وحيداً، وكتبت عنه قبل نحو عامين فقلت : لئن غرّنا اليوم وأمس ثورة الجسد في الأغنية العربية وتشرّبها الجيل الجديد فقد كان لزاماً علينا (نشر) شيء من هذا الضوء لنحرق به ما تداعت له هيبة الوسط الفني من غثاء وفوضى، دعوني اليوم أجلس في مكان (قصي) لرصد شيء من ردة فعلكم على ما لم تتوقعون. لا نعلم ماذا تخبئ لنا الأيام وماذا كتب طارق بعدها أو قبلها وماذا قال وماذا فعل وماذا كان يريد بسبب غيابنا (الاختياري) عنه وعن تاريخه وكأنه لا يعنينا. نسميه الموسيقار أم نسميه العميد؟ إنه (الرائد) طارق عبدالحكيم الذي قدم وصيته التي تدنو من قلبي كثيراً وليتها تدنو من قلوبكم يقول طارق: وصيتي أهدي مكتبتي الفنية الموسيقية لأبناء بلدي من الفنانين والموسيقيين وكذا المهتمين في الحقل الفني الموسيقي من أبناء العالم العربي، وأوصي أبنائي بالمحافظة على التقاليد العربية والإسلامية والإبقاء على كل ذكرى عطرة تركتها لهم والمحافظة على مؤلفاتي التي هي جزء مني وللتاريخ أقول: إن الفن مرآة الشعوب ولا تُعرف أمّة إلا بموسيقاها كما أرجو أن تبقى إدارة الفنون الشعبية علامة بارزة في خطة رعاية الشباب التي غرس تطورها مولاي جلالة الملك فهد بن عبدالعزيز.